منطقة "تونا الجبل".. حاضنة شهيدة الحب إيزادورا واستراحة طه حسين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تونا الجبل هى إحدى المواقع الأثرية الهامة في محافظة المنيا، تقع غربي مركز ملوى ، يذكر مفتش الآثار سيد عبدالملك ، أن المقطع الأول من إسمها تونا ربما اشتق من كلمة قاونت التي تعني إقليم الأرنب ، أو اشتق من كلمة قاحنت بمعنى البحيرة الصغيرة ، التي كان يتجمع فيها طائر الأييس رمز المعبود تحوت ، معبود المنطقة آنذاك ، من معالم المنطقة السراديب التي كانت مُعدّة لدفن الطيور المقدسة (الأييس) و(القرد) ، ومقبرتا بتوزيرس وإيزادورا ، والساقية الرومانية ، إلى جانب المنازل الجنائزية واللوحة الحدودية ، كل هذه المعالم ترجح أن تاريخ المنطقة يرجع إلى الفترة من 350 ق.م إلى 300 ميلادية ، وقد اكتشفت تلك المعالم عام 1935.

جبانة دفن الحيوانات

تعتبر السراديب هي أكبر جبانة لدفن الحيوانات المقدسة ، التي تمثل مجموعة ضخمة من الممرات المنقورة في الصخر ، والتي كانت مخصصة لدفن طيور أبومنجل المقدسة ، وكذلك القردة بعد تحنيطها ، ومكونة من أربعة أجزاء A-B-C-D، أقدمها يرجع إلى عصر الأسرة 26 ، اكتشفها العالم سامي جبرة ، بدأ الحفر فيها منذ عام 1931 واستمر حتى 1952، بتمويل من جامعة القاهرة .

وتضم المنطقة البيوت الجنائزية ، وهى عبارة عن 39 منزلًا جنائزيًا ، يرجع تاريخها إلى أوائل القرن الرابع قبل الميلاد وحتى نهاية القرن الثاني الميلادي ، بنيت من الطوب اللبِن المغطى بطبقات من الجص الملون ، زينته رسومات دينية من مصر القديمة ، ويغلب عليها الطابع الإغريقي ، أغلبها يتكون من حجرتين ، تحتوي الداخلية على سرير توضع عليه مومياء المتوفى ، وسمي منزل وليس مقبرة لسببين ، الأول لأن المقابر علي هيئة منازل مكونة من أدوار تصل حتى الرابع ، لكن بسبب التغيرات الجيولوجية رُدمت أغلب الأدوار وظهر المنزل كأنه بدور واحد فقط ، أما السبب الثاني فهو وجود أكثر من عادة للدفن ، فالمصري القديم كان بعد الوفاة يتولى تحنيط الجثة ثم دفنها في حجرة معدة لذلك ، أما اليونان فكان لديهم ثلاث طرق كالمصري القديم منها الدفن على سطح الأرض أو حرق الجسد ، وهناك مقابر تشبه شكل الهرم وهي تمثل الطريقة الثالثة ، إذ أقدم اليونانيون على حرق الجسد ووضع الرماد في إناء فخار مع كتابة اسم صاحبها على ذلك الإناء .

لم تكن تونا الجبل مدينة أموات فقط ، بل كانت مدينة حية أيضًا ، فإلى جانب الموتى كان مجموع من الكهنة يعيشون ، وهو ما يستلزم وجود مياه وطعام كحد ادنى لاستمراهم أحياء ، لذلك صنع المصري القديم الساقية الرومانية ، وهى أكبر ساقية موجودة حاليًا ، حيث يصل عمق تلك الساقية إلى 70 مترًا ، وأنشئت على مرحلتين ، الأولى حفر المصري القديم الأرض علي عمق 40 مترًا ، كانت تدور الساقية بالبشر والمرحلة الثانية عن طريق سحب المياه إلى السطح بزيادة 30 مترًا ، وفي هذه المرحلة استخدمت الثيران ، وما زال النموذج الخشبي للساقية موجودا  حتى الآن .

مقبرة بتوزيرس

تعتبر مقبرة بتوزيرس (350 ق.م) فى تونا الجبل النموذج الوحيد للحضارة الهلنستية ، وهي مزيج بين الحضارتين المصرية القديمة واليونانية ، وتعود إلى  بداية دخول الإسكندر الأكبر مصر ، وبتوزيرس هو كبير كهنة المعبد فى تونا الجبل ، وتتكون مقبرته من صالتين أمامية وخلفية ، الأمامية تجمع بين الطرازين المصري واليوناني ، والذي يتمثل في مظاهر الحياة اليومية للمصري القديم كالحصاد والزراعة والصناعات المختلفة ، كما تضم منظرًا لمراحل ولادة البقرة ، أما الصالة الداخلية فتتحدث عن مظاهر الحياة الدينية ، وجمعيها مناظر مصرية خالصة ، لأن المصري القديم كان يعتز بدينه كثيرًا ، يتوسط الصالة الداخلية “البئر” المؤدية إلى حجرة الدفن .

شهيدة الحب

تعتبر مقبرة إيزادورا من أهم مقابر تونا الجبل ، وقد لقبها الدكتور طه حسين ، “شهيدة الحب” واستوحى منها فكرة روايته (دعاء الكروان) ، وترجع إلى 120 ق.م ، وهى للفتاة الشابة إيزادورا البالغة من العمر آنذاك 16عاماً ، كانت تعيش مع أسرتها فى أحد القصور الضخمة المطلة على نهر النيل ، وقد أعجبت بشاب من قوات الحراسة الموجودة في المدينة وهو ضابط مصرى يُدعى حابى كان يعيش على الجانب الغربي من النيل في مدينة خمنو (الأشمونين حاليا) ، ونمت قصة الحب بينهما عندما تقابلا بالصدفة فى أحد الاحتفالات الدينية الخاصة بالإله "تحوت" رمز الحكمة فى الحضارة مصر القديمة لتستمر بعدها اللقاءات بينهما  كل يوم وكل ليلة فنجدها تذهب بالقرب من النهر ويأتى حابى إليها من البر الآخر بجوار القصر ، واستمر الحال على تلك الوتيرة قرابة الثلاثة أعوام فقد كان الأمر مستحيلا أن يأخذ خطوات أبعد من ذلك لأن منظور المجتمع المصرى القديم الواقع تحت الاحتلال الرومانى آنذاك كان لا يرى أى مقارنة  بين المستويين فحابى شخص من عامه الشعب المصرى وإيزادورا فتاة إغريقية من أسره غنية وابنة حاكم الإقليم ، حتى جاءت اللحظة التى اكتشف فيها والدها قصة الحب الصادقة ليرفض بشدة فكرة ارتباط ابنته بالشاب المصري (حابى) ويضيق عليهما الخناق فيأمر الحراس بتتبع تحركات إيزادورا ومنعها من مقابلة حابى ، لتجد إيزادورا نفسها مكتوفة الأيدى لا تحمل سوى معانى اليأس فى تحقيق حلم حياتها بالزواج من حبيبها ، لتفكر بعدها فى ابتكار حيلة ما للتمكن من مقابلة  حابى ، وبالفعل ذهبت إلى مكان اللقاء المعتاد لتراه للمرة الأخيرة بدون أن تخبره بما تنوى فعله وهو "الانتحار"، وبعد أن ودعته ذهبت إلى منتصف النهر ، وألقت بنفسها وهى تشعر بخيبة الأمل وضياع حلمها الصادق ، لتتغلغل مشاعر الأسى والندم داخل قلب والدها بعد فراق قرة عينه فيقرر أن يبنى لها مقبرة فريدة فى طرازها المعمارى بمنطقة مقابر تونا الجبل ، وهى مبنية من الطوب اللبن المحروق بها بعض الأجزاء الداخلية والخارجية مطلية باللون الأبيض ، يقع مدخلها فى الجهة الغربية وتتكون من حجرتين إحداهما أمامية والأخرى غرفة للدفن حملت بداخلها جثمان إيزادورا موضوعة على سرير جنائزى فاخر من الطوب اللبن به عمودان يعلوهما نموذج على شكل قوقعة مغطاة بالجص ، وقد نقش عليها والدها مرثية  باللغة الإغريقية على الباب الخلفى المؤدى لغرفة الدفن حملت المرثية معانى جمة لمظاهر الحب والندم على فراقها .

عميد الأدب العربي

في عام 1931 وافق عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين “وكان وقتها يشغل منصب عميد كلية الآداب ، علي تخصيص مبلغ 500 جنيه للكشف عن جانب من آثار المنطقة ،حيث بدأ الباحثون يعملون في منطقة “تونا الجبل” لمدة أكثر من عشرين عاما ، وقد أقام الدكتور طه حسين إستراحة خاصة به بالقرب من المقبرة وعكف على ترجمة مرثية رثاء إيزادورا ، لتبقى ترجمته واستراحته باقيتين حتى الآن ، يرتادهم زوار المنطقة من كل أنحاء العالم .