نشأت سميرة موسي في قرية صغيرة بمحافظة الغربية لم يكن أحد يتوقع أن تخرج من بين الحقول والتقاليد فتاة ستصبح أول عالمة ذرة مصرية، وواحدة من أوائل النساء العربيات اللاتي دخلن المختبرات النووية بحثًا عن السلام، فهى لم تكن فتاة عادية بل ساهمت فى نهضة وطنها وسبقت عمرها بعقود.. وهي من مواليد 3 مارس عام 1917 في قرية سنبو الكبري، وكانت أسرتها تؤمن بقيمة التعليم، حيث عمل والدها على البحث عن فرص أفضل وحرص على أن تكمل سميرة دراستها رغم كل النحديات فى ذلك الوقت.
من الجبر إلى الذرة
أظهرت سميرة نبوغا مبكرًا فى مدرسة بنات الأشراف وتفوقت في الرياضيات والعلوم وكتبت كتابًا مبسطًا فى الجبر لتساعد زميلاتها، وعندما وصلت إلى التوجيهية حصلت على المركز الأول على مستوى القطر المصري في زمن نادرًا ما كان يحتفل بتفوق الفتاة.
ثم التحقت بكلية العلوم فى جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة حاليًا) واختارت دراسة الفيزياء وكان استاذها هو العالم الكبير الدكتور مصطفي مشرفة الذي رأى فيها مشروع عالمة من الطراز الرفيع.
وكانت أول معيدة يتم تعيينها فى الكلية وحصلت على درجة الماجستير قبل ذهابها في بعثة إلى انجلترا لاستكمال الدكتوراه في الفيزياء النووية.
الذرة من أجل العالم
عرفت الذرة من أربعينيات القرن الماضى بسبب الدمار، وكان العالم يعيش تحت صدمة قنبلة هيروشيما، والكل يتحدث عن الرعب النووى، ولكن سميرة خرجت "بره الصندوق" وفكرت بشكل مختلف وأرادت أن تستخدم العلم لخدمة البشر لا قتلهم. وقالت جملتها الشهيرة:
"أريد أن أجعل العلاج بالذرة مثل الأسبرين.. رخيصًا وفي متناول الجميع".
وبدأت تعمل على فكرة استخدام الطاقة النووية لأغراض طبية وزراعية ونجحت فى الوصول إلى معدلات تسمح بتفتيت الذرة باستخدام معادن رخيصة مثل النحاس.
عالمة في زمن الرجال
وعندما عادت إلى مصر أسست أول معمل للأبحاث النووية في جامعة القاهرة، وشاركت في تأسيس هيئة الطاقة الذرية المصرية عام 1950، لكن شغفها بالذرة لم يجعلها تنفصل عن قضايا الوطن حيث دعمت نضال الفلسطينين ورفضت استخدام الذرة لأغراض عسكرية، وواجهت حملات تشوية غير مباشرة حيث لم يتقبل المجتمع والعالم أن يكون العقل العلمي الأول في يد امرأة مصرية.
الحلم الذي توقف على الأسفلت
فى عام 1951، وجهت لها الولايات المتحدة دعوة رسمية لاستكمال أبحاثها، وسافرت بالفعل حيث أجرت أبحاثًا في معامل جامعة سان لويس، وعرضت عليها الجنسية الأمريكية والإقامة الدائمة، لكنها رفضت مؤكدة أن علمها يجب أن يخدم وطنها مصر والعالم العربي.
وفى عام 1952 تلقت سميرة دعوة لزيارة أحد المفاعلات النووية في كاليفورنيا، ولكنها كانت دائمًا تخطط بما يعود على مصر بالنفع وبناء مركز أبحاث ذري يعالج الفقراء ويدعم الزراعة ويوفر مصادر الطاقة الآمنة.
لكن تلك الرحلة إلى المفاعل النووى بكاليفورنيا لم تكتمل، فقد تعرضت لحادث أودى بحياتها ظل محاطًا بالغموض، وقيدت القضية ضد مجهول، دون الكشف عن أي تفاصيل إضافية، وفي ظل التوترات السياسية في ذلك الوقت، تردد أن الموساد الإسرائيلي يقف خلف اغتيال سميرة موسى، خوفًا من محاولتها نقل المعرفة النووية إلى مصر والعالم العربي، فقد كانت تؤمن بشدة بأن العلم لا يجب أن يكون حكرًا على قوى بعينها، وكان حلمها الأكبر هو تطوير مشروع نووي يخدم بلادها.
ورغم التلميح إلى تورط جهات استخباراتية، فلم يتم إثبات أي شيء رسميًا حتى اليوم، ليظل مصرع سميرة موسى واحدًا من أكبر الألغاز العلمية والسياسية في القرن العشرين.
إرث لا يموت
رحلت سميرة عن عمر يناهز الـ35 عامًا وسط صدمة في الوسط العلمي المصرى، ورغم أن حياتها كانت قصيرة إلا أنها تركت إرثًا باقيًا في كل مختبر نووي مصري وفي كل برنامج علمي يحمل طابعًا سلميًا، وتم تكريمها بعد وفاتها بوسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى وأطلق اسمها على عدة مدارس وشوارع فهى لم تكن مجرد عالمة ذرة بل كانت صوتًا علميًا وإنسانيًا اختار أن يقاوم بالعقل وأن يسخر الطاقة من أجل الحياة لا الموت.