في عرض المتوسط، وعلى مسافة 825 كيلومتراً من قطاع غزة الغارق في الدم والرماد، يتحرك "أسطول الصمود العالمي" محمّلاً بما تبقى من ضميرٍ جماعي، متحدياً واحدة من أطول وأشدّ حلقات الحصار في العصر الحديث.
أكثر من 55 قارباً، ومئات الناشطين من 44 دولة، يصنعون الآن مشهداً لا يشبه المؤتمرات ولا البيانات، بل يشبه الحقيقة كما تجري: قوارب تبحر وسط طائرات مسيّرة، وأجساد بشرية تختار ألا تكتفي بالمشاهدة.
قوارب تبحر في قلب التهديد
أسطول الصمود العالمي ليس استعراضاً سياسياً ولا حملة علاقات عامة، إنه تحرّك منظم، معلن، ومتعدد الجنسيات، يحمل نية واضحة: كسر الحصار البحري المفروض على غزة منذ أكثر من 18 عاماً. منذ انطلاقه من شواطئ تونس في الخامس من سبتمبر، والأسطول يشق طريقه عبر المياه الدولية، حاملاً مساعدات إنسانية ورمزية في آنٍ واحد.
مئات النشطاء المدنيين، بعضهم سياسيون وممثلون، وبعضهم مجرد مواطنين مؤمنين بقضية، يواجهون احتمالات الاعتراض، العرقلة، وربما الاعتداء، كما حدث في تجارب سابقة. ومع أنهم باتوا على بُعد أقل من 900 كيلومتر من شواطئ غزة، إلا أن المسافة السياسية والتهديدات الأمنية تجعل كل ميلٍ بحري إضافي، مغامرة جديدة.
الطائرات المسيّرة ترصد
وفق تقرير لـ"الشرق الأوسط" فإن ليلة السبت، رُصدت طائرات مسيّرة مجهولة، حلّقت على ارتفاع منخفض فوق بعض قوارب الأسطول، في ما بدا اختباراً للأعصاب أكثر من كونه هجوماً مباشراً، بينما وثق الناشطون على متن القارب "ألما" هذه اللحظات، وأكّدوا عدم وقوع أية إصابات، رغم رصد ضجيج مريب وتحليق مكثف.
لكن أحد المشاركين، يوسف سمور، تحدث لاحقاً عن حادثة مثيرة للقلق؛ حيث قال إن طائرة دون طيار ألقت مواد غير معروفة قرب قاربهم، ما تسبّب له بتهيج جلدي في الوجه والفم، قبل أن يغسله بالماء. لم يكن ذلك هجوماً عسكرياً صريحاً، لكنه أرسل رسالة مفادها: نحن هنا، نراقب، وسنتصرف إن اقتربتم أكثر. هذه الرسائل، وإن جاءت صامتة، تُقرأ جيداً في البحر المفتوح، حيث كل حركة محسوبة، وكل قرار قابل للتصعيد.
حين يتوقف المحرك وتستمر الإرادة
لم يكن الطريق سلساً أمام الجميع، الممثلة والناشطة الفرنسية أديل إينيل، التي انضمت للأسطول من تونس، أعلنت اضطرارها لمغادرة المهمة بسبب تعطل محرك القارب الذي كانت على متنه. ظهرت في تسجيل مصور عبر إنستجرام، بنبرة اعتذارية، وقالت إنها كانت تتمنى إتمام الرحلة، لكنها لا تزال تعتبر بقاء زملائها على متن القوارب الأخرى أهم من حضورها الرمزي.
وتعرض قارب آخر يحمل اسم "فاميلي بوت" لعطل تقني مشابه، ما اضطر المنظمين إلى إعادة توزيع الناشطين على قوارب أخرى. رغم تلك العقبات، فإن الانسحاب الفني لا يعني تراجعاً عن الهدف، بل يثبت ما أظهره هؤلاء النشطاء: أن القرار لا يرتبط براحة الأفراد، بل بحاجة المحاصرين.
غزة تختنق تحت القصف والركام والحصار
بينما تتجه القوارب ببطء نحو غزة، كانت المدينة نفسها تمزقها القنابل. وزارة الصحة في القطاع أعلنت مقتل 79 فلسطينياً وإصابة 379 خلال أربع وعشرين ساعة فقط، لترتفع حصيلة الضحايا منذ اندلاع الحرب في أكتوبر 2023 إلى أكثر من 66 ألف قتيل ونحو 168 ألف جريح. بين هؤلاء ستة ممن وصفتهم الوزارة بـ "شهداء المساعدات"، في إشارة إلى من قضوا أثناء محاولاتهم استلام أو توزيع مواد إغاثية.
كما لا تزال فرق الإسعاف والدفاع المدني غير قادرة على الوصول إلى عشرات الضحايا العالقين تحت الأنقاض. في أحد التقارير، ذُكر أن طائرة إسرائيلية بدون طيار قصفت حي النصر غرب مدينة غزة، بينما منعت القوات وصول طواقم الإنقاذ. هنا لا تبدو المعركة عسكرية بقدر ما هي صراع ضد محو الحياة من أساسها.
بين رهائن غزة وحرب بلا أفق
في الجانب الآخر من الصورة، خرج آلاف الإسرائيليين إلى شوارع تل أبيب مطالبين بوقف الحرب وإعادة الرهائن المحتجزين لدى حماس. تزامنت المظاهرات مع اقتراب لقاء بين نتنياهو والرئيس الأميركي دونالد ترامب، ما أعطى للحدث بُعداً سياسياً داخلياً.
اللافتات التي رفعها المتظاهرون لم تكن تروّج للنصر، بل تطالب بالعودة إلى نقطة التفاوض، وتناشد من تبقّى من الرهائن. "أعيدوا الـ 48 رهينة إلى ديارهم الآن"، عبارة تكررت في الميدان، كما في وسائل الإعلام. لكن هذه الأصوات تقابلها أخرى من الجناح اليميني المتطرف، يتقدمهم وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الذي هدّد نتنياهو من مغبة الدخول في أي اتفاق دون "سحق حماس". في هذا التناقض العميق بين من يطالب بالحل ومن يصر على النار، تقف غزة وحيدة، بين القصف والحصار، وبين الأمل والبقاء.