كان فيلسوفًا موسيقيًا، عازفًا على أوتار الروح قبل الآلة، نغماته لمست وجدان الشعب، ترجم المشاعر الإنسانية وفهم لغة الروح وحولها إلى نغمات خالدة حتى يومنا هذا. صنع لنفسه متفردًا مكانة خاصة كأحد أعمدة الطرب الأصيل، عند سماع ألحانه لا تشعر أنها مجرد جمل موسيقية، بل لوحات فنية متكاملة تتراقص أمام المستمع تروى قصصًا عن الحب والشوق والفراق والوطن.. إنه الموسيقار الكبير رياض السنباطى من أعظم المجددين فى الموسيقى الشرقية، حيث جمع بين الأصالة والمعاصرة بعبقرية نادرة، فكان يتقن أسرار المقام الشرقى ويُلم بأدق تفاصيله، ولكنه لم يتردد فى كسر القواعد لتقديم ألحان جديدة ومبتكرة، كان يعزف على آلة العود ببراعة استثنائية، الأمر الذى ساهم فى إثراء ألحانه وتعميقها، فكل لحن يخرج من يده يحمل بصمة خاصة، لا تُشبه لحنًا آخر، وتكشف عن موهبة فطرية وعمق فكرى غير مسبوق.
فى فترة السبعينيات من القرن الماضى، وتحديدًا عام ١٩٧٦، وعلى شاشة التلفزيون الكويتي، وضمن برنامج "شبكة التلفزيون" الذى كان يقدمه الإعلامى القدير عبد الرحمن النجار، جلس عملاق الموسيقى العربية، رياض السنباطي، محاطاً بهالة من الوقار والحكمة.. لم يكن هذا اللقاء مجرد حوار عابر، بل وثيقة تاريخية ثمينة، حملت شهادات حية من فنان عاش العصر الذهبى للطرب انفتح الحديث ليغوص فى أعماق مسيرة السنباطى وفلسفته، ملقياً الضوء على أسرار لم تُنشر من قبل، وعلى رؤية فنية لا تزال دروسها خالدة.
رسالة للتعبير عن المشاعر الإنسانية
كان السنباطى لا يرى الموسيقى مجرد نغمات تُعزف، بل كان يرى فيها رسالة، كان يرى فى المقام الموسيقى إمكانيات غير محدودة للتعبير عن المشاعر الإنسانية، يدرس الشعر ويتفاعل معه بعمق، ثم يترجمه إلى لغة موسيقية يفهمها الجميع، هذا التناغم بين الشاعر والمغنى والملحن هو ما جعل أغانيه خالدة. كان السنباطى يملك القدرة على أن يأخذك فى رحلة إلى عالم آخر، عالم من الأحاسيس والمشاعر التى لا تُنسى
ارتبط اسم السنباطى ارتباطًا وثيقًا بكوكب الشرق أم كلثوم، حيث قدم لها ما يقارب ٢٠٠ أغنية، شكلت جزءًا كبيرًا من تراثها الخالد، لم يكن التعاون بينهما مجرد عمل فني، بل كان حالة إبداعية فريدة من نوعها، السنباطى كان يدرك تمامًا قدرات صوت أم كلثوم، وكيف يمكنه أن يبرزها ويظهر جمالها، ألحانه لها كانت تشبه الثوب الذى يفصل خصيصًا لقياس صوتها، فكانت تتفاعل معها وتبهر بها الجمهور. من "أنت عمري" و"الأطلال" إلى "عودت عيني" و"يا ظالمني"، قدّم السنباطى لأم كلثوم تحفًا فنية لا تزال تشكل جزءًا من الوجدان العربي.
لم تقتصر عبقرية السنباطى على أم كلثوم فحسب، بل امتدت لتشمل العديد من المطربين الكبار مثل محمد عبدالوهاب، وأسمهان، وفايزة أحمد، كان يرى فى كل صوت مشروعًا فنيًا يمكن أن يبرزه ويضيء عليه، ألحانه كانت تُشبه الجواهر، تُضيء كل صوت يلامسها، ولكن يبقى تعاونه مع أم كلثوم هو الأكثر شهرة وتأثيرًا، لأنهما شكلا ثنائيًا فنيًا لا مثيل له فى تاريخ الموسيقى العربية.
لم يقتصر إسهام السنباطى على التلحين فقط، بل كان عازفًا منفردًا، ومؤلفًا موسيقيًا، وناقدًا فنيًا، كانت له رؤية شاملة للموسيقى، وكان يؤمن بأن الفن يجب أن يكون له هدف وقيمة، وبأن الموسيقى هى لغة الروح، وأنها تستطيع أن تُعبر عن ما لا تستطيع الكلمات أن تعبر عنه.

سلاسة وعمق الكلمات فى حديث السنباطى
فى ذلك اللقاء على شاشة التليفزيون الكويتى، كانت الكلمات تخرج من فم الموسيقار الكبير فى سلاسة وعمق، وكأنها ألحان صاغها من تجارب العمر، لم يكن يتحدث عن الفن كمهنة، بل كرسالة، وكشغف، وكجزء لا يتجزأ من روحه ومن بين كل ما قيل، كانت قصة علاقته بـ"كوكب الشرق" أم كلثوم هى النهر الذى لا ينضب، والذى يروى بدايات أسطورية، وتحديات، وعملاً فنياً يمتد تأثيره لأجيال.
يستهل السنباطى حديثه بتأكيد فلسفته الفنية التى آمن بها طوال مسيرته، وهى أن "لكل فن من فنون الغناء جماله الخاص وأسلوبه المتفرد" ومع أنه يحترم كل ألوان الموسيقى، إلا أن ميله الفطرى ينحاز إلى تلحين القصائد الشعرية. هذا الميل، كما يوضح، ليس مجرد تفضيل شخصي، بل هو إيمان عميق بأن الشعر يمثل التحدى الأكبر للملحن، ويفرض عليه مسؤولية فنية أعمق. ويعتبر السنباطى أن مهمة تلحين الشعر أصعب بكثير من تلحين الأغانى العادية، لأنها تتطلب من الملحن أن يكون شريكاً للشاعر، ليس فقط فى فهم الكلمات، بل فى استيعاب روحها وجوهرها وفلسفتها. فاللحن ليس مجرد أداة لتزيين النص، بل هو بوابة تعبر إلى أعماق المعنى.
وفى هذا الحوار، يكشف السنباطى عن منهجه الصارم فى اختيار ما يلحنه، لا يتردد فى رفض أى نص غنائى لا يجد فيه صدى لشغفه الفنى أو لا يلامس مشاعره الشخصية.. بالنسبة له التلحين ليس عملية فنية روتينية، بل هو حالة من التماهى بينه وبين الكلمات. يؤمن بأن الكلمات يجب أن تأسر الملحن أولاً قبل أن يأسر بها الجمهور.
ويقول بكلمات صادقة وحاسمة: "يجب على الكلمة أن تحرك شيئاً فى داخلي، إذا لم تلامس شغاف قلبى وتأسرني، فلن أتمكن من تحويلها إلى لحن خالد"، هذا المبدأ الصارم هو ما جعل ألحانه تحفاً فنية، لأنه لم يلحن إلا ما آمن به بصدق.

خيبة أمل فى حال الأغنية العربية
وفى لفتة نقدية جريئة، يعرب السنباطى عن خيبة أمله من حال الأغنية العربية فى زمنه آنذاك، واصفاً كلماتها بأنها "فارغة" أو "عديمة الهدف".. هذا النقد لم يكن موجهاً من منطلق شخصي، بل من رؤية فنان يؤمن بأن الفن رسالة سامية ويشدد على أن الأغنية الحقيقية يجب أن تحمل قيمة ومعنى، وأن الكلمة يجب أن تكون قوية بما يكفى لتحرك المشاعر حتى قبل أن يضاف إليها اللحن. "القصيدة القوية يجب أن تجعلك تقول (الله) بمجرد سماعها، حتى قبل أن تُغنى"، هكذا لخص السنباطى فلسفته فى أن الكلمة هى أساس كل إبداع.
ويأخذنا السنباطى فى رحلة عبر الزمن ليروى أسرار لقاءاته الأولى مع أم كلثوم، والتى بدأت قبل أن تصبح كوكب الشرق ويصحح للمذيع معلومة أول لحن قدمه لها، مؤكداً أنهما كانا عملين من كلمات الشاعر الكبير أحمد رامي: "يقول عذابى وشجوني" و"لما أنت نويت هجريني"، أما أول لحن له بشكل عام، فكان لفيلم "دنانير" عام ١٩٣٩، وقام بغنائه الفنان عبد الغنى السيد بدلاً من أم كلثوم، إلا أن اللحن لاقى إعجابًا جماهيريًا كبيرًا، ما دفع أم كلثوم لتسجيله بصوتها لاحقًا بعد أن تأكدت من نجاحه الجماهيري.
وفى سرد غير متوقع، يكشف السنباطى عن أول لقاء شخصى جمعهما على الإطلاق، والذى لم يكن لقاءً فنياً، بل صدفة عجيبة حدثت فى محطة قطار صغيرة بقرية "درين" فى الخامسة والنصف فجراً.
كان السنباطى فى الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمره يغنى مع والده، بينما كانت أم كلثوم قد انتهت من إحياء حفل فى قرية مجاورة، التقى الإثنان على رصيف المحطة فى ذلك الوقت المبكر، وقامت أم كلثوم بنفسها بالسلام عليه، وهى ذكرى لا تزال محفورة فى ذاكرته، حيث يقول بلهجة لا تزال تحمل ذكريات الطفولة: "تقدمت لى وسلّمت عليَّ فى أول لقاء.. وقضيّت ليالى فى يديها فى هذه الساعة وهذا الوقت العجيب".
بعد سنوات، بدأ السنباطى مسيرته الفنية كمطرب فى الإذاعات المحلية، حيث كان يلقب بـ"بولو المنصورة". وبعد أن ذاع صيت أم كلثوم، تراجع لقب "بولو" ليصبح مجرد ذكرى، كما يقول، ولكن القدر كان يخبئ لهما لقاءً فنيًا آخر عندما استمعت أم كلثوم لأحد ألحانه على الراديو، وهو لحن أغنية "ياريتك حبيتني"، الذى أعجبت به كثيراً وتواصلت معه هاتفياً. كانت هذه المكالمة بداية التعاون الفنى الذى أثمر عن مئات الألحان الخالدة، ليتحول لقاؤهما الأول فى محطة القطار إلى بداية مسيرة فنية استثنائية.
أم كلثوم طاقة إلهية وذكاء حاد
يواجه السنباطى برأى نقدى شائع يزعم أن صوت أم كلثوم، بفرط جماله، قد أخر الموسيقى العربية لأنه حصر الملحنين فى إطار معين، وهنا ينتفض السنباطى مدافعاً عن شريكته فى الإبداع، قائلاً بحماس: "الموسيقى العربية وجمالها وازدهارها لم يكن إلا فى أيام غناء أم كلثوم". ويؤكد أن أم كلثوم لم تؤخر الموسيقى، بل فتحت لها آفاقاً جديدة تماماً. "من كان يغنى القصائد الغزلية والدينية والوطنية قبلها؟" يتساءل السنباطي، ليثبت أنها خلقت جمهوراً جديداً لهذا النوع من الغناء. يرى أن صوتها كان طاقة إلهية لا يمكن أن تُعوَّض، وأنها كانت فريدة من نوعها.
وعن أهم صفاتها غير صوتها، يشيد السنباطى بذكاء أم كلثوم الحاد، وخفة ظلها، وسرعة بديهتها. يصفها بأنها كانت مستمعة من الطراز الأول، وأنها كانت تستمع بعناية قبل أن ترد، وتأتى إجاباتها مختصرة ومعبرة فى الوقت نفسه. هذه الصفات الشخصية، فى رأيه، كانت لا تقل أهمية عن موهبتها الفذة فى الغناء.
عندما يثار موضوع ظهوره كممثل فى السينما، يوضح السنباطى رؤيته الفنية فى جملة حاسمة: "أنا لستُ ممثلاً، أنا ملحن" حيث يرى أن التفرغ للمهنة الواحدة هو الطريق الوحيد للإتقان، ويرفض فكرة أن يعمل الفنان فى أكثر من مجال، هذا التخصص الذى اتخذه مبدأً فى حياته هو الذى جعل ألحانه تحفاً فنية، لأنه لم يكن يرى نفسه إلا كمهندس للموسيقى، صانعاً للحن الذى يحرك القلوب.
وفى ختام اللقاء، يكشف السنباطى عن لحن قدمه لأم كلثوم لكنها لم تتمكن من غنائه، وهو قصيدة من شعر أحمد شوقى بعنوان "انتظارة"، يذكر أنه قد انتهى من تلحينه وسجله بصوته على شريط، لكنها رحلت عن الدنيا قبل أن تتمكن من غنائه، لتظل هذه التحفة الفنية ذكرى لتعاون لم يكتمل.

أسس راسخة للموسيقى العربية
فى هذا اللقاء النادر، لم يكن رياض السنباطى مجرد ضيف يتحدث عن فنه، بل كان فيلسوفاً يضع أسساً راسخة للموسيقى العربية، فكلماته التى خرجت من قلب عاشق للموسيقى، تعد درساً خالداً لكل من يريد أن يترك بصمة حقيقية فى عالم الفن.. إن مبادئه فى التلحين، وإصراره على الجودة والمعنى، جعلت من ألحانه أعمالاً خالدة، لم تمحها السنون، بل زادتها رسوخاً فى وجدان الأمة العربية.
إنه ليس مجرد اسم فى تاريخ الموسيقى العربية، بل هو فصل كامل من فصول هذا التاريخ، فصل مليء بالإبداع والجمال والخلود. رياض السنباطى لم يرحل، فموسيقاه باقية، وصوته لا يزال يتردد فى كل لحن شجي، وفى كل كلمة معبرة، لقد كان وسيظل أعظم ملحنين جيله، وشاهدًا على أن الفن الحقيقى لا يموت أبدًا.