أخبار عاجلة

الرحيل فى الذاكرة

الرحيل فى الذاكرة
الرحيل فى الذاكرة

من بين ثمار الإبداع المتناثرة هنا وهناك، تطفو على السطح قطوف دانية، تخلق بنضجها متعة تستحق التأمل، والثناء، بل تستحق أن نشير إليها بأطراف البنان قائلين: ها هنا يوجد إبداع..
هكذا تصبح "قطوف"، نافذة أكثر اتساعًا على إبداعات الشباب في مختلف ضروبها؛ قصة، شعر، خواطر، ترجمات، وغيرها، آملين أن نضع عبرها هذا الإبداع بين أيدي القراء، علّه يحصل على بعض حقه في الظهور والتحقق.

"سمية عبدالمنعم"

483.jpg

(1)كان الغروب موعد لقائهما ، هو يأتى كل يوم ، يجلس تحت شجرة التوت ؛ يمسك كتابا ًيقرأ فيه ، وأمامه الماء يلقى فيه – من وقت لآخر –حصاة  تحدث صوتا ً، وتصنع دوائر متوالدة ًعلى سطحه ، وتعيده إلى أيام صباه الأولى . هنا مكان خلوته ،وملاذه من واقع الناس وثرثرتهم ، وأسئلتهم الساخرة ، ومكان تأمّله ؛ إذا ضاق الرأس بما فى الكتب . أمّا هى فابنة المكان ، لاحظته من سطح بيتها ، يجلس ، أو يمشى قليلا ً، ثم يعود إلى مكانه . 
   كان هو أيضا ً يلاحظها ،  ذات مرة نزلت بكتاب فى يدها ، كلمته ، وكلمها ، سألته ، فسألها ، وكان البدء ، جذبهما تقارب العمر ، وشجعهما خُلُّوُّ المكان وسكونه ، وجمعهما شئ خفىّ لا يعرفانه .
ذات يوم جاء ؛ وانتظر ،فلم يرها ؛ كان يود أن يقرأ  لها أول  قصة كتبها ،كانت عن حبيبين ( تعارفا ، فتقاربا ، تلامست الأيدى ، فتشابكت ، وسارا قرب نهر صافٍ ،قالت : عطشانه ؛ فنزل إلى النهر ، ملأ كفيه ؛ ليسقيها ، ولما استدار ؛ لم يجدها )
انتظر كثيراً فلم تأت ، سأل عنها ؛ قالوا : سافرت ولا شئ غير ذلك ، ولم يعد يأنس بالمكان ؛ فحمله فى الذاكرة ،وغاب ، كتب قصصاً عنها ، وسمّى كل بطلات قصصه على اسمها .  
(2)قال  له أخوه ذو الأبناء الأربعة ( بنت ، تحزن على بنت ، أنت غريب حقا ً !!)
عمرها الآن عشر سنوات ، سمّاها على اسم فتاته الأولى ( هند ) نسى بها الدنيا ، قضى الساعات يكلمها ، ويتلذذ بنطق اسمها ،حكى لها الحكايات فى المهد ،وتلهى بها عن إهمال زوجه ، وتجاهلها له ، ولكنها   ماتت بليل ، كان المطر يغمر الدنيا ، ولكنه لم يهدئ من حرارة جسمها ، وعند الطبيب أخذت روحه وطارت إلى الملأ الأعلى . 
(3)الفصل – كالعادة –هادئ ، التلاميذ فى أماكنهم ،هم يحبون مدرسهم البشوش الطيب ، ولكنه اليوم على غير العادة : لم يطلب منهم إخراج الكتب ، أو كتابة التاريخ ،لم يمسح السبورة  ولم يكتب شيئاً عليها , فقط  ظلّ يملس بكفه على رؤسهم ، ويمر بين المقاعد   ( هاملت ، ذلك الأمير البائس ، هل كان محقا ً حين رأى أن ما يحقق به وجوده هو السيف ؟........... ) واستمر موجها ًكلامه لمجهول ، وبدأ التلاميذ فى الصياح ، والحركة ، واللعب ، وقذف بعهم بعضا ً بقطع الطباشير ، والورق المكور ( روميو ، أيها  اللعين !! ألا ترون معى أن .........) واستمر صراخ التلاميذ ، ولعبهم ( هى فى مثل عمركم ..إنها هناك مع أصحابها ) وأشار بيده  إلى السماء مبتسما ً، و لم يسكت عن الكلام  ، حتى بعد أن أخرجه زملاؤه من الفصل ، واصطحبه أحدهم إلى البيت ، وأوصى زوجه أن تذهب به إلى طبيب فورا ً .
لمّا وصل اليبت كان مجهدا ً ، يتصبب عرقا ً ، ويتحدث بكلام  لم يفهمه زميله ، ولم تفهمه زوجه التى أبدت ضجرا ً واضحا ً ، فتركهما  يتحدثان ، ودخل حجرته وتمدد على أرضها . 
تلك هى اللحظة التى توقف فيها عن الإمساك بالقلم ، لم يكتب بعدها قصة واحدة ، جمع الأوراق البيضاء ومزقها ، وحطم الأقلام ، إلا قلم الحبر الذى كان ينسخ به كل قصة بعد تمامها ؛  فجلس منهكا ً  ،وضع القلم فى مواجهة ضوء المصباح ، وصمت ، جاءت اللحظة التى يدخل فيها فى نفسه ، أن يحمل وحده ذلك الحزن الجبل ويرحل  ،  إلى أين ؟ لا يهم ، مع من ؟  لا يهم ، تحطم القلم بين يديه ، وترك أثرا ً للحبر على يديه وملابسه ، وخرج يقصد مكانا ً فى ذاكرته . 
(4)الكل ينتظر ، أخته وأبناؤها بحثوا عنه فى كل مكان يتوقعون وجوده فيه ؛ فلم يجدوه ، سألوا الجيران والناس فى الشوارع بلا فائدة ، آخر مرة غاب وجدوه عند باب المدرسة يقف وقد ذابت قطعة الحلوى فى يده  ،  ذوّبها الحر وعرق كفّه ؛ فأخذوه على غير رغبة منه إلى بيت أبيه الذى لم يعد  يناسبه غير حجرة فيه  ، وضعوا فيها كتبه ، وجهاز الراديو الخاصَّ به ، هم كل ما تبقى له بعد أن هجرته زوجه   التى قالت ( إنه مجنون لا يدرى ماذا يفعل ) – ذات يوم قال أبوه (يا ولدى لم يبق فى العمر شئ !أرحنى قبل أن أموت ) ولما عرضوها عليه ؛ قال (حسنا ً ليكن ما ترون ) وتزوجها  -  آخر مرة قالت ( طلقنى ) فقال ( ألم أطلقك من قبل ؟! ) قالت ( لا ) فقال ( أنت طالق ) 
(5)هو نفس المكان الذى قضى فيه مدة دراسته " المدينة الجامعية " البوّابة الحديدية رمادية اللون ، الحارس على جانب البوّابة ، الوقت مازال نهارا ً ،  الطلاب  يدخلون ويخرجون ، يبرزون بطاقاتهم للحارس ، ويمضون ،هو لم يبرز بطاقة ولم يسأل ،  مظهره يبعث على الريبة ، بشعره الهائج ، والعرق الذى غمر بدلته الصيفية الكالحة ؛ وبدا كمن قضى أياما ً ماشيا ً ، اعترضه الحارس فقال له ( ماذا تريد ؟! )قال الحارس ( إلى أين ؟! ) قال ( نسيت قصتى فى الحجرة ، سأحضرها ، أنا أسكن هنا !!!) الحارس يعرف تماما ً عمله ، جذبه من ملابسه ، ودفعه إلى حجرة الحراسة معنفا ً بينما هو يقول ( دعنى أحضر القصة ، لماذا تمنعنى ؟ )
تجمع الطلاب على صوت الحارس والرجل الغريب الذى يمسك به ؛ فأخذه أحد المشرفين من يد الحارس وقال  ( هو معى ) وسأله ( ماذا تريد يا عم َّ ؟ ) فردّ ( قصتى ، نسيتها ، سأحضرها من  حجرتى ) اصطحبه المشرف إلى الداخل ،  وفى الطريق سأله عن الطابق الذى يسكن فيه ، وعن الحجرة ورقمها ؛ فردّ واثقا ً ، صعدا معا ًإلى الدور الثالث ، وفى أول ممر ترك المشرف يده وتوقف ، وانطلق هو واثقا ً من نفسه تماما ً ، ثم توقف وتلفت يمينا ً ويسارا ً ، ذهب إلى آخر الممر ، وعاد إلى أوله ، ولا شئ غير ذلك ؛ ربت المشرف على كتفه ، ونزل معه وقال ( سوف أحضر لك قصتك ) 
دخل المشرف مكتبه وهو معه ، طلب له شايا ،ً وبينما هو يشرب الشاى ؛ قلّب المشرف فى ملفات  قديمة أخرجها من دولاب خلفه  ،وظل ينظر فى الصور وينظر إليه ، وبينما كان  المشرف مشغولا ً أخذ هو  كوب الشاى  فى يده ، واتجه إلى الخارج قاصدا ً مكاناً آخر فى ذاكرته .
                                           
(6)نزل من القطار ، قصد أول شارع أمامه ، الوقت ليل ، وبعض النسوة يجلسن أمام  بيوتهن ، نظرن إليه ولم يكلمنه ، هو أيضا ً لم يسلم ، سار واثقا ً ، فى منتصف  الشارع تماماً  توقف ، أخرج من جيبه مفتاحا ، ًوقصد الباب الأكبر فى الشارع ، حاول فتحه ؛  فلم يفلح ، قلّب المفتاح ؛ فلم يفتح ، انتبه الناس إليه يكلم نفسه ، هم يعرفون صاحب البيت ، فمن هذا الغريب ؟؟ -  منذ وقت  طويل انقطع الغرباء عن هذا البيت ، كانوا يأتون نهارا ً ، يدخلون ، وتعلوا أصواتهم ، ثم يخرجون كتبهم فى أيديهم ،والسجائر تلمع نيرانها فى الظلام ، تزوج الأستاذ عادل بعد موت أبيه وأمه  وانقطع عنه أصحابه -  قامت إحدى الجيران وقالت له ( إذا لم يعمل المفتاح ؛ دق الجرس ) لم يرد وظل ينظر فى المفتاح ، فدقت الجارة الجرس وانصرفت . 
من شرّاعة الباب نظرت امرأة بتحفظ شديد ، ولم تفتح ، قال لها ( افتح ) 
فلم ترد، حاول فتح الباب ثانية ؛ فلم يفلح ، فعاد يكلم نفسه ، بعد قليل فتح  عادل  الباب ؛ فلم يصدق ما يرى ، احتضنه ، وأبقاه فى حضنه فترة ؛ كان يود أن يشبع من صديقه الذى اختفى ولم يعرف عنه شيئا ً ،  كل ما كان يستطيعه أن يخرج ورقة ليقرأ فيها قصة ألّفها صديقه الأكثر موهبة ً .
        
أخذ عادل  بيد صديقه ودخلا نفس الحجرة التى شهدت عمر صداقتهما ، كان الإجهاد بادياً عليه وآثار سفر طويل على وجهه وملابسه ، ومع ذلك ظل يبحث فى الحجرة ، ويقلّب الأشياء ، ويبحث فى الأغطية ، وتحت السرير ؛ سأله عادل ( عم تبحث ؟ ) قال (0 كانت هنا ! ) قال عادل ( ما هى ؟ ) فقال ( قصتى نسيتها هنا فى الصباح قبل أن أخرج ) لم يصدق عادل ما يحدث أمام عينيه ؛ فصديقه لم يكن فى البيت هذا الصباح ، ولم يحضر منذ  سنوات ، فظل ينظر إليه دامعا ً  وهو يبحث . 
لم يشأ عادل أن يطول عذاب صاحبه ؛ فكف عن البكاء ، وأحضر  له ملابس للنوم أعطاها له ، وما لبث أن راح فى نوم عميق ، فتركه عادل وخرج . 
       
فى الصباح حرص عادل وقد أدرك ما أصاب صاحبه  أن يصحو مبكرا ً   ؛ انتظره حتى استيقظ ، غسل له رأسه ، ومشط   له  شعره ، وجلسا يفطران ، آه ! لأول مرة يراه يأكل قبل أن يشرب الشاى  - عادته التى لم يره يغيرها  - ومنذ أن صحا لم ينطق بكلمة  ، ( كنت أقرأ قصة لك بالأمس ) لم يلتفت إليه ( قصتك عن ذلك الشاب الذى كان يحب الفتاة اليونانية ، هل تذكرها ؟) واستطرد عادل ( لى مجموعة من الأصدقاء أحدثهم عنك كثيرا ً وينتظرون رؤيتك ، هل تأتى معى ؟) فقال ( أنا أذهب إلى هناك يوميا ً ) عادت أسئلة عادل كلها بلا إجابة ، يوما ً كاملا ً قضاه يسأل صديقه عن أحواله ، وقصصه ، وزواجه ، سأله عن أمه ، و عن وظيفته ، وهو لا يرد ،فقط يبحث  فى المكان ، أهم ما أحسه عادل : أن صديقه ارتاح عنده .
(7)فى المساء خرجا ، وفى الطريق  كان كل ما يسيطر على عقل عادل : كيف يضع صديقه فى هذا الاختبار ؟ كيف يجعله يواجه أصحابه وهو على هذه الحال؟ بالتأكيد سيكون مثار شفقة الأصدقاء، وربما سخريتهم ، وسيكون لذلك أثر سئ عليه حتما ً . فى أول مقهى مرا عليه قال عادل ( اجلس هنا ، سأشترى سجائر ، وأعود إليك سريعا ً ) ووصى النادل أن يراقبه ، ويضع أمامه المشروب دون أن يطلب  ، ولما رجع عادل كان صاحبه قد رحل إلى مكان آخر فى ذاكرته . 
       
(8)فى الندوة بدأ عادل كلامه ( كنت وعدتكم أن أقدم إليكم كاتبا ً عبقريا ً قرأت لكم قصصه كثيرا ً ،وسوف أقرأ لكم قصة أرسلها إلى َّ من مكان سفره اليوم ، ثم أخذ يرتجل دامعا ً قصة عن صاحبه  ، كانت نهايتها  ( ترى هل كان التيه ملاذه الأخير ؟ !! )

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أحلام لا يحاسب عليها القانون
التالى بقيمة 45 مليون دولار.. تفاصيل صفقة جوجل مع نتنياهو لنشر الدعاية الإسرائيلية