يستمر السجال بين من ينظر إلى تنظيم الإخوان على أنه حركة مثل "الماسونية" وجودها مرتبط بالسرية والمراوغة ومن يلقي باللائمة على الحريات في المنطقة العربية، ومنذ نشأة تنظيم الإخوان على يد حسن البنا عام 1928، قدّم التنظيم نفسه بوصفه مشروعًا إصلاحيًا إسلاميًا طموحًا يسعى إلى إعادة "المجتمع المسلم" إلى نقاء الشريعة.
إلا أن صحيفة الإندبندنت البريطانية ترجح أن هذا الخطاب المعلن يخفي وراءه، دون أدنى شك، نهجًا سريًا قائمًا على المراوغة وإخفاء النوايا الحقيقية.
هذا الأسلوب المزدوج يشبه ما يُعرف في التراث الشيعي بـ"التقية" أو "النفاق" بالمعنى الشرعي الأوسع، ويُمكن تسميته في السياق السياسي بـ"الخداع".
وفي المقابل، يرى بعض المدافعين عن التنظيم أن هذا السلوك ليس أكثر من "براجماتية" سياسية ضرورية في بعض الأحيان. لكن هذه الازدواجية تكتسب أهمية متجددة مع تجدد النقاشات حول مراجعات التنظيم وسجالاته وحروبه الإقليمية والدولية.
نقطة تحول في تاريخ الحركات الإسلامية
وأضافت الصحيفة البريطانية أن المفارقة الحقيقية اللافتة تكمن في أن الحركات الإسلامية العربية تاريخيًا لم تكن تمارس هذا الأسلوب، بل كانت تتميز بالعلنية، حتى وإن كانت تتسم أحيانًا بالتسرع أو الفوضوية.
هذا على النقيض من جماعات أعجمية مثل الحشاشين أو التنظيمات السرية في التاريخ الفارسي. ولكن تنظيم الإخوان قلب هذه القاعدة رأسًا على عقب، وجعل من السرية والازدواجية سلاحًا استراتيجيًا ما زال يثير جدلًا كبيرًا حتى اليوم.
وقد دفع هذا السلوك باحثين من بينهم من انشق عن التنظيم، إلى اعتبار أن رفاقهم السابقين يتقاطعون في بعض أدبياتهم السرية مع الماسونية، المعروفة بسرّيتها الفائقة، وربما مع الحشاشين الذين عادوا إلى واجهة الاهتمام بفضل مسلسل تلفزيوني مصري تناول حركتهم الباطنية التي نشأت في القرن الحادي عشر الميلادي على يد زعيمها حسن الصباح.
إسقاط "الحشاشين" على واقع الإخوان
لم يكن المسلسل الذي اختُصر لاحقًا في فيلم مجمع هو العمل الوحيد الذي تناول حركة الحشاشين. فبسبب طبيعتها السرية للغاية، أصبح التسلل إلى عوالمهم أمرًا جذابًا للباحثين عربيًا وغربيًا.
هذا التشابه دفع عددًا من الخبراء إلى الاعتقاد بأن الحشاشين في الفيلم ليسوا سوى ضمير مستتر تقديره تنظيم الإخوان.
وسلط هذا الإسقاط غير المباشر الضوء على خطر الأساليب التنظيمية التي قد تهدد استقرار الدولة الوطنية ونهضة المجتمعات، بغض النظر عن الاسم الذي تُعرف به. ويرى الخبراء أن المقاربة واضحة "بين أول جماعة احترفت الاغتيال (الحشاشين)، وكيف أنها تسترت وراء الدين، وبين تنظيم الإخوان الذي فعل الشيء نفسه... هاتان الجماعتان خرجتا من رحم واحد وإن اختلف زمنهما".
المنشقون يروون قصصهم
ما قاله المنشقون عن تنظيم الإخوان لم يفاجئ متابعيهم، خصوصًا بعد صدور كتاب "سر المعبد" للإخواني السابق ثروت الخرباوي الذي روى فيه وقائع كشف من خلالها آليات عمل التنظيم الداخلية. ورأى أن التقية لدى تنظيم الإخوان كانت منهجًا ثابتًا لا مجرد حالات ضرورة فردية.
من جهته، كشف الداعية السعودي المعروف الشيخ عائض القرني عن بروتوكولات التنظيم في نسخته السعودية، أي كتاب "الصحوة"، مؤكدًا أن "السرية" كانت جزءًا أساسيًا من العمل الذي يراه مجانبًا للصواب، لأنه "يربي في النشء التربص والازدواجية والخديعة".
وقال القرني، الذي كان في التسعينيات من أبرز الأصوات التي تمرر رسائل التنظيم، في مراجعاته العلنية، إنه عرف أخطاء التنظيم من قرب، "ولأنها فشلت عبر كل السنين الماضية في تهذيب سلوكها، وجب عليها حل نفسها".
وثائق بريطانية تكشف مؤامرات سرية
لم يقتصر النهج السري للتنظيم على أساليب عمله الداخلية، بل أغرى أيضًا قوى أجنبية لتوظيفه في اختراق الدول.
وسلطت الإندبندنت الضوء على وثائق بريطانية سرية أُفرج عنها حديثًا تكشف كيف استغلت لندن شعبية تنظيم الإخوان في الستينيات لشن حرب دعائية سرية ضد جمال عبد الناصر، العدو الأول للندن وتل أبيب، من خلال ترويج منشورات مزورة باسم التنظيم تهاجم الجيش المصري.
وتوضح الوثائق أن رئيس الوزراء دوجلاس هوم وجّه وزير خارجيته عام 1964 لجعل حياة ناصر "جحيمًا" باستخدام المال والسلاح، مع التأكيد على سرية العملية وإنكارها إذا انكشفت، في سياق الصراع على النفوذ في المنطقة.
الأب الروحي للتقية
يؤكد الأكاديميون أن التقية عند تنظيم الإخوان في الخليج كانت عنصرًا أساسيًا في عمله، وهو ما لم يكن أمرًا عارضًا بل أصيلًا في تفكيره. ويشيرون إلى كتابات الأب الروحي، أي المنظّر الرئيسي للتنظيم في العراق والخليج، محمد أحمد الراشد، التي شكلت ما يشبه "دستور عمل" للتنظيم.
وعلى الرغم من انتشار كتاب "المسار" للراشد، إلا أن الباحثين يرون أن كتابه الأخطر هو "أصول الإفتاء والاجتهاد التطبيقي"، الذي لا يقرأه إلا الصف القيادي الأول، لأنه يشرح فيه "نظريات الإخوان في التقية السياسية" وكيف أن شعاراتهم المعلنة مثل "الإسلام هو الحل" هي مجرد أدوات للاستقطاب وتوسيع القاعدة الجماهيرية.
ميكافيلية ورشاوى واختراق المؤسسات
في كتابه، يبرز الراشد تحت عنوان "تطبيقات في السياسة الدعوية" الأسس التي تقوم عليها براجماتية التنظيم، حيث يرى أن "دخول بعض الدعاة الوزارة في حكومات علمانية" هو اختراق يخدم التنظيم.
كما يشير إلى تعامله مع الحكومات بمنطق المصالح، فيصف أعضاءه المعتقلين بـ"الرهائن"، ويشن حملات سياسية وإعلامية لإطلاق سراحهم. كما يذكر الراشد صراحة "رشوة ضباط الاستخبارات والإداريين" ويقيسها على "دفع مال للكفار"، في تعبير يعكس رؤية تكفيرية مبطنة.
ويمضي الراشد في وصف هذا النهج، مؤكدًا أن التنظيم لا يرى حرجًا في "التوظف في البنوك وسلك القضاء" بهدف تأهيل كوادره سياسيًا واكتساب خبرة داخل مؤسسات الدولة، لأن الهدف الأسمى هو التمكين للحكم. وهكذا يخلص الجديع إلى أن الشعارات ليست سوى غطاء دعائي لممارسة قائمة على الميكافيلية وتوظيف كل الوسائل الممكنة لتحقيق أهدافهم.
بين الخليج ومصر وتركيا
بدأت علاقة السعودية ودول الخليج بتنظيم الإخوان في الخمسينيات، عندما لجأ عدد من قادته إلى المملكة هربًا من ملاحقات عبد الناصر، فوجدوا ملاذًا ومجالًا للتأثير في التعليم والجامعات والجمعيات الخيرية.
وفي أعقاب هزيمة 1967 وصعود الطفرة النفطية في السبعينيات، اتسع نشاط التنظيم، لكن بروز مشروعه السياسي وارتباطه بتنظيمات عابرة للحدود أثار قلق الأنظمة الخليجية. وجاء الغزو العراقي للكويت عام 1990 ليكشف التباين، حيث أيدت قيادات إخوانية الغزو، مما أحدث انقسامًا عميقًا.
ومنذ أحداث 11 سبتمبر 2001 ثم الربيع العربي 2011، ازدادت الشكوك تجاه التنظيم باعتباره قوة سياسية تسعى إلى زعزعة الاستقرار، فبدأت مرحلة القطيعة العلنية عبر إدراجه كـ"تنظيم إرهابي" في السعودية والإمارات والبحرين.
ازدواجية الخطاب في الدول الغربية
لا يمكن قبول حجة أن الظروف القمعية هي ما تدفع التنظيم إلى العمل السري. ففي الدول الغربية الأكثر انفتاحًا، يمارس تنظيم الإخوان "التقية" نفسها والازدواجية، بحسب محللين وأجهزة أمنية. فبينما يرفعون شعارات الإسلام والهوية الدينية في مجتمعاتهم، يقدمون أنفسهم في الغرب كقوة إصلاحية منفتحة على الديمقراطية وحقوق الإنسان والأقليات.
هذا الخطاب المزدوج جعلهم محل انتقاد حتى من باحثين غربيين رأوا أن التنظيم يمارس "سياسة بوجهين" تربك المجتمعات المضيفة.
كتاب "التقية! لعبة الإخوان في السياسة الفرنسية" يوثق كيف أتقن التنظيم خطابًا مزدوجًا: واحد موجه للسلطات يتحدث عن الاعتدال، وآخر داخل المجتمعات الإسلامية المهاجرة يركز على الانفصال عن قيم الجمهورية، وهو ما وصفه المؤلف بـ"النفاق السياسي".
تحول استراتيجي مثير للجدل
كانت واحدة من أبرز المفارقات هي تحول تنظيم الإخوان خلال قرن تقريبًا من خطاب "كيف نواجه أمريكا؟" إلى "كيف نحصل على رضا أمريكا وإسرائيل؟".
ويؤكد كتاب "الإخوان المسلمون والغرب" الذي ترجمه مركز الملك فيصل للبحوث الإسلامية، أن التنظيم، على الرغم من خطابه العدائي العلني تجاه الغرب، بنى علاقات وثيقة مع أجهزة استخبارات ودبلوماسيين غربيين، خصوصًا بعد الحرب الباردة، حيث تم استثماره كقوة توازن ضد الأنظمة القومية واليسارية. هذا النهج أضر بصورة الإسلام ككل، إذ ربطها في الأذهان بأساليب المراوغة.
تقية أم براجماتية؟
بينما يذهب بعض مؤيدي تنظيم الإخوان إلى أن هذه الممارسات ليست "تقية" بل "براجماتية سياسية"، يرى منتقدو التنظيم أن المشكلة تكمن في أنه عين نفسه ناطقا رسميا يتحدث باسم الإسلام، بينما يجمع كبار المفكرين والمفتين في العالم الإسلامي أن شأن رسالة الإسلام أعظم من استغلالها لأجل تحقيق غرض حزبي.
هذا السلوك منح خصوم التنظيم مادة قوية لتبرير تصنيفه، مما جعل المسلمين يدفعون ثمن ممارسات تنظيم يسعى إلى التمكين السياسي أكثر من صون المجتمع.