ويتجدد اللقاء مع المعين الصافي لأدباء ومواهب أبناء أرض الكنانة ..وضيفنا في هذا السطور الكاتب الأديب مدحت الخطيب المحامي ،والذي أهدي بوابة “ الجمهورية والمساء أون لاين” أحدث إبداعاته في ثياب القصة القصيرة..
وسمت بعنوان “خلف قضبان الشك” .
????
خلف قضبان الشك !!
لم يكن في عينيه يوما شيء من الاطمئنان، كانت النظرات تهبط عليَّ كما يسقط الغبار على الورد، تطفئ لونه، وترخي أوراقه، لم يكن يحبني كما يحب الرجل امرأته، بل كما يراقب الحارس سجينه، لا ليحميه، بل ليدينه متى سنحت الفرصة.
كنت أستيقظ كل صباح وفي قلبي وصية لأطفالي أن يظلوا بخير إن سقطت يوما، أغادر البيت لا لأهرب، بل لأكمل ما بدأت، حياة أريد لها أن تظل متماسكة، بيتا لا تهدمه العيون الغاضبة، ولا تنهشه الألسنة المرتابة، لكني، في كل مرة، كنت أعود لأجد نفسي متهمة دون تهمة.
حين يتكلم، لا يقول الكثير، لكنه حين يصمت، يقول كل شيء، كان الصمت بيننا أثقل من ألف كلمة، يجرح كالسوط، ويحفر في القلب أخاديد الشك، حتى صارت الحياة بيننا رقصة على حافة نصل، لا نستطيع الثبات، ولا نجرؤ على السقوط.
ما عدت أجد في بيتي ظلي، صرت أمشي كمن تراوغ التهمة، تخفي تأخرها، وتبرر تعبها، وتزين خوفها بضحكة مصطنعة، لأنني أعلم أن كل ما أفعله ليس حبا في الكذب، بل خوفا من الحقيقة التي لا يجيد فهمها.
كلما ابتسمت له، رد علي بنظرة مرتابة، كلما اعتنيت ببيتي وأولادي، اتهمني بأنني أتقن التمويه، صارت نياتي محل شك، وقلبي تحت المجهر، وكأنني دخلت قفص الاتهام منذ أول عهدنا، وما عرفت البراءة طريقا إلي.
رأيته ذات ليلة، يسرح في الفراغ كما يسرح القاتل في انتظار صوت الشرطة، لم أنبس بكلمة، لكني شعرت به يفتش عن جريمة في وجهي، عن سر لا أملكه، عن خيانة لم أرتكبها، كانت عيناه كأنهما تقولان اعترفي حتى أرتاح.
أقسمت داخلي أني ما خنت، ولا رغبت، ولا تاه قلبي يوما، أحببته كما تحب الأرض مطرها الأول، وانتظرت منه أن يغفر لي إن كذبت مرة، لكنه لم يغفر، ولم يسأل لماذا، كان يكفي أن تتنفس الحقيقة قليلا حتى يقتلها بحسن ظنه السيئ.
كثيرا ما تمنيت أن يواجهني، لا بالصمت، بل بالحقيقة، أن يقول أشك فيك، بدلا من أن يسكب السم في طعام الحياة قطرة قطرة، لو قالها لعلني أبرر، أو أصرخ، أو أبكي، لكن الخيانة التي لم تحدث ظلت تعذبني كما لو أنني اقترفتها بالفعل.
في عينيه جدار من ماضيه، أقف أمامه كل يوم فلا يراني، هو لا يراني أنا، بل يرى امرأة خانته قديما، أو خانها هو، ثم ارتدت عليه اللعنة، أنا لست تلك المرأة، ولا شيء من خياله في، لكنه لا يريد أن يميز بين الوهم والوجه.
حين أنام، أشعر به يقلبني بنظراته، كأنما يبحث عن دليل في ملامحي، وحين أصحو، أشعر بأن اليوم ليس إلا محكمة جديدة، وأنا في كل يوم متهمة، وملف القضية يتضخم دون شاهد ولا دليل، سوى قلب مهزوم يعيش على دم الشك.
الأولاد يشعرون، وإن صمتوا، البنات يخجلن من نظرات أبيهن حين تخطئ إحداهن في أمر صغير، والولد الصغير يسألني لماذا لا يبتسم والده في وجهي، لم أجب، وكيف أجيب؟ هل أقول له أبوك لا يصدق أن الحب قد يكون نقيا؟.
أنا امرأة، لكني لست “منحرفه” كما يتصور، أعمل، نعم، أخرج من البيت، أحتك بالناس، أجالس الرجال أحيانا بحكم الوظيفة، لكنني لم أنس أنني أم، وزوجة، وأن كل نبضة في قلبي موصولة برباط الشرف قبل أن تكون موصولة برعب المراقبة.
حين يكذب طفل صغير، يعذر، لكن حين تكذب امرأة خائفة، تدان، كذبت عليه مرة كي لا يغضب، مرة كي لا يحقق، مرة كي لا يسأل، وفي كل مرة كنت أزيد سكين الشك غرسا في خاصرتي، حتى تعبت من التبرير.
ما عدت أجيد الكلام، ولا الصمت، كل شيء يحسب عليَّ، نظرتي، ابتسامتي، تأخري، عطري، نومي، كلها عناصر في مسرحية تكتب خلف ظهري، وأنا فيها البطلة المتهمة، التي تنتظر في كل فصل أن تعدم.
أكره الليل، فقد صار ممرا إلى الجحيم، هو لا ينام، بل يراقبني، يتظاهر بالنوم، لكن عينه اليقظة كعين صياد في كمين، وإن أغمضت عيني، شعرت بأنه يتنفس خلفي بقلق، كأنما يحلم أن يمسك بيدي رسالة، أو يقرأ في هاتفي خطيئة.
أدعو الله كثيرا، لا لأني ضعيفة، بل لأني مظلومة، أقول في سري رباه، إن كنت بريئة، فأرني وجه العدالة في قلب هذا الرجل، وإن كنت مخطئة، فخذني قبل أن أخطئ بحق بيتي، وكل دعائي يذهب، ولا يعود.
حاولت الرحيل، لكن أولادي كانوا حبالا تربطني إلى الأرض، كيف أتركهم في بيت تهدمه الشكوك؟ كيف أسلمهم لصورة أم مهزوزة؟ كيف أقول لهم أبوكم لا يحب، بل يراقب، لا يثق، بل يدين؟.
كان يمكن للحياة أن تكون أصفى، لو أن فيه قليلا من الثقة، لو أنه غفر لي خطأ صغيرا، كذبة بيضاء، تأخر ساعة، عطرا أنثويا، لكنه لم يكن يغفر، بل يكتب، ويسجل، ويحفظ، وكل ملف عنده لا يغلق، بل يفتح كل ليلة.
أخشى أن يورث لبناته هذا الشك، وأن يكبر ابنه ليصبح مثله، لا يحب امرأة إلا إذا حاصرها بالتهم، ولا يتزوج إلا من يخاف منها، ولا ينجب إلا ليراقب، الخوف أكبر من الطلاق، إنه خوف من أجيال مريضة.
كم مرة وقفت أمام المرآة، أنظر لنفسي وأسأل هل تغيرت؟ هل صرت باردة؟ هل زال الحب من عيني؟ لكني أراها، عيني، ما زالت مملوءة به، حتى وإن انطفأ بريقها من كثرة الظلم، فهي تحبه، نعم، تحبه رغم كل شيء.
لم يطلب الطلاق، ولم أطلبه، وكأن بيننا رباطا من نوع آخر، لا هو حب، ولا هو نفاق، بل هو موت بطيء، نعيش فيه معا، وكل واحد منا يراقب الآخر يحتضر، دون أن يملك شجاعة القتل أو شرف الرحمة.
في بعض اللحظات، يلمع في عينيه شيء غريب، ليس شكا، بل ألما، كأنه يعتذر دون أن يقول، أراه يريد أن يحبني من جديد، لكنه يضعف، فيعود إلى سجنه، ويغلق الباب، ويبلع المفتاح.
لا أطلب منه معجزة، فقط لمسة ثقة، نظرة لا تدين، حضن لا يفتش، أريد أن أكون زوجة، لا قضية، أما، لا مشتبها بها، أريد أن أعيش بلا تهمة، أن أموت بريئة في قلب من أحببت.
ربما لا يعرف أني أراه كما لا يرى نفسه، أعرف ضعفه، وماضيه، وأكاذيبه القديمة، ولم أحاسبه، كنت أما له كما كنت زوجة، سترا له كما كنت سترا لأولاده، لكنه لم يعطني إلا السجن.
وفي الليلة الأخيرة، حين غفت المدينة، وعم السكون، دعوت الله من جديد رباه، إن كان في قلبه ذرة حب، فأنبته صدقا، وإن لم يكن، فاكفني شر الشك بمنأى عن الطلاق، ولا تجعل أولادي يتامى وهم يرون آباءهم أمامهم.
أنا امرأة، لم أطلب مجدا، ولا ثروة، ولا حتى شكرا، كل ما أردته أن أحب، وأصان، وأعامل كإنسانة، لكنني الآن أعيش في بيت بلا يقين، مع رجل يحب أن يدين، ويخاف أن يحب!.
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"