رغم الجهود المعلنة التى بذلتها الحكومات الألمانية المتعاقبة لنزع سلاح المتطرفين اليمينيين، فإن الواقع الأمنى يشير إلى عكس ذلك. فقد كشف تحقيق استقصائى حديث أجرته قناتا NDR وWDR الألمانيتان أن آلاف القطع من الأسلحة النارية لا تزال فى حوزة أفراد ينتمون إلى التيارات اليمينية المتطرفة، بمن فيهم النازيون الجدد وأعضاء حركة "مواطنى الرايخ"، وهى جماعة لا تعترف بشرعية الدولة الألمانية وتسعى إلى تقويض نظامها السياسى القائم.
التطرف اليميني خطر متصاعد
هذا التناقض الصارخ بين الخطاب السياسى والممارسات الفعلية على الأرض يثير مخاوف حقيقية من تنامى ظاهرة الإرهاب الداخلى الذى لم يعد مقتصراً على جماعات دينية متشددة كما كان فى العقود الماضية، بل بات اليوم مرتبطاً بشكل مباشر وملموس بالتطرف اليميني.
تصاريح السلاح تحت غطاء "الرماية"
لقد شكّل الهجوم العنصرى الذى وقع فى مدينة هاناو فى فبراير 2020 محطة فارقة فى الوعى العام الألمانى بخطورة هذا النوع من الإرهاب. فقد أقدم المهاجم حينها، وهو مواطن ألمانى ذو أفكار عنصرية متطرفة، على قتل تسعة أشخاص من أصول مهاجرة، ثم قتل والدته وانتحر. المثير فى الأمر أن هذا الشخص كان يمتلك أسلحته بطريقة قانونية، رغم أن السلطات الأمنية كانت قد سجلت عليه مؤشرات سابقة تدل على تطرفه. لقد حصل على تصاريح سلاح لأنه كان يمارس رياضة الرماية منذ سنوات.
تصريحات حكومية بلا تنفيذ
فى أعقاب هذا الهجوم، تعهدت وزيرة الداخلية حينها، نانسى فيزر، باتخاذ إجراءات حازمة لمنع تكرار مثل هذه الحوادث، وصرّحت بأن الدولة ستعمل على تسهيل عمليات سحب الأسلحة من المتطرفين، بل وستمنع إصدار التصاريح لمن يُشتبه بانتمائهم إلى تيارات راديكالية، مؤكدة أن الدولة ستصادر الأسلحة بشكل مستمر وحاسم. لكن رغم تلك التصريحات، جاءت نتائج التحقيقات الصحفية التى أجريت بعد عامين لتفضح التقاعس المؤسساتى فى معالجة هذه المشكلة.
أرقام صادمة
فقد أظهرت البيانات التى تم جمعها من إحدى عشرة ولاية ألمانية أن هناك أكثر من 2500 قطعة سلاح نارى مرخصة قانونياً فى أيدى أشخاص تعتبرهم الدولة متطرفين، وأكثر من ثلثى هذه الأسلحة تعود إلى متطرفين يمينيين على وجه التحديد. ولا تشمل هذه الأرقام سوى الولايات التى استجابت للطلب، ما يعنى أن العدد الحقيقى قد يكون أكبر بكثير، خاصة وأن بعض الولايات لم تفصح عن هوية حاملى الأسلحة أو توجهاتهم الأيديولوجية، ما يضيف طبقة من الغموض والقلق إلى المشهد.
اليسار والإسلاميون في الهامش.. واليمين المتطرف في الصدارة
فى المقابل؛ لا يمثل المتطرفون اليساريون أو الإسلاميون سوى نسبة ضئيلة جداً من الحاصلين على تصاريح أسلحة، إذ لا يتعدى عددهم 120 شخصاً على مستوى البلاد، ما يدل بوضوح على أن التهديد الأكبر لا يأتى من تلك الجهات، بل من اليمين المتطرف الذى يحظى بوصول أسهل إلى السلاح.
"مواطني الرايخ": جماعة تنكر الدولة وتخطط لعنف مسلح
تُعدّ حركة "مواطنى الرايخ" من أبرز الأمثلة على مدى خطورة هذا التوجه، فهى جماعة تنكر وجود الدولة الألمانية وترفض الاعتراف بدستورها ومؤسساتها، بل وتحرض على العصيان المسلح. وقد نفّذت الشرطة الألمانية خلال السنوات الماضية عدة مداهمات لمنازل وأوكار تابعة لأعضاء هذه الحركة، وعثرت على كميات كبيرة من الأسلحة والذخائر، إلى جانب وثائق وخطط تشير إلى استعدادهم لتنفيذ أعمال عنف منظمة.
ترخيص السلاح تحت غطاء شرعي.. والنية إرهابية
ما يثير الرعب أن عدداً كبيراً من هذه الأسلحة كان مرخصاً قانونياً، ما يعنى أن المسألة لا تتعلق بأسلحة غير شرعية مهربة، بل بنظام قانونى يفتقر إلى الآليات المناسبة للتمييز بين الممارسات الرياضية البريئة والسلوكيات التى تخفى وراءها نوايا إرهابية.
غياب قاعدة بيانات وطنية يزيد خطر الانفلات الأمني
المشكلة لا تكمن فقط فى القوانين نفسها، بل فى تنفيذها أيضاً، فهناك فجوة حقيقية فى التنسيق بين الولايات، وعدم وجود قاعدة بيانات موحدة أو نظام إنذار مبكر يرصد الأفراد الذين قد يشكلون تهديداً أمنياً، خاصة إذا ما ظهر عليهم سلوك عدوانى أو أبدوا ميولاً أيديولوجية متطرفة.
ثغرات في التقييم النفسي والسياسي لمقدّمي الطلبات
كما أن نظام إصدار تصاريح السلاح فى ألمانيا لا يأخذ فى الحسبان بشكل كافٍ الخلفية النفسية أو السياسية لمقدم الطلب، ما يتيح للعديد من الأشخاص الوصول إلى الأسلحة دون رقابة كافية.
والأسوأ من ذلك أن هناك مؤشرات على تسلل بعض العناصر المتطرفة إلى أجهزة الأمن والجيش، مما يعقّد الموقف أكثر ويجعل عملية التصدى للإرهاب اليمينى أكثر صعوبة.
كل قطعة سلاح = تهديد إرهابي محتمل
إن حيازة الأسلحة من قبل المتطرفين اليمينيين ليست مسألة قانونية فحسب، بل هى تهديد مباشر للأمن القومي. فكل قطعة سلاح فى أيدى شخص متطرف تمثل احتمالاً حقيقياً لوقوع هجوم إرهابى فى أى لحظة، سواء ضد أفراد من الأقليات، أو سياسيين، أو مؤسسات الدولة.
الداخل مصدر التهديد: الإرهاب الجديد ألماني الصنع
الإرهاب لم يعد يأتى من الخارج، بل بات يترعرع داخل الحدود، ويستفيد من الثغرات القانونية والبيروقراطية التى تسمح له بالنمو والتسلح. وإذا لم تتخذ الحكومة الألمانية إجراءات استباقية أكثر صرامة، فإن البلاد قد تشهد هجمات أكثر دموية، تزرع الرعب وتقوّض الثقة بالمؤسسات الديمقراطية.
دعوات لمراجعة شاملة وسحب فوري للأسلحة
من الضرورى أن تتحرك الدولة بشكل فورى وحاسم لسحب كافة الأسلحة من أى شخص يثبت انتماؤه إلى أى تنظيم أو فكر متطرف، بغض النظر عن المظهر القانونى الذى حصل من خلاله على الترخيص. ويجب أن يشمل ذلك مراجعة شاملة لكافة تصاريح السلاح الموجودة، وتطوير آليات المراقبة، وتعزيز تبادل المعلومات بين الولايات، وإنشاء نظام وطنى موحّد يرصد سلوكيات الأفراد المحتملين للانخراط فى أعمال عنف.
تدقيق أندية الرماية وهواة الصيد.. وسد منافذ التسلح المغطاة
كما ينبغى إخضاع أندية الرماية وهواة الصيد لتدقيق أكثر صرامة، لأن هذه المؤسسات قد تُستغل كغطاء لتمرير السلاح إلى الأيدى الخطأ.
التساهل الأمني تهديد وجودي للديمقراطية
ويرى مراقبون أن التساهل مع تسليح المتطرفين لا يمثل فقط تقصيراً أمنياً، بل يُعد تهاوناً أمام تهديد وجودى يُعرض المجتمع الألمانى بأسره للخطر. ويشير المراقبون إلى أن التحدى لم يعد نظرياً، بل هو واقع ملموس، يتطلب استجابة شاملة وقوية، لا تكتفى بالتعهدات السياسية، بل تُترجم إلى إجراءات صارمة على الأرض، حتى لا تتكرر مآسى مثل هاناو مرة أخرى.