حين يتحدث التاريخ بلسان الجغرافيا
في السياسة قد تُمحى الوعود وتزول التحالفات، لكنّ الجغرافيا لا تزول. هي العبء الثابت، والقدر الذي يطلّ برأسه مهما توالت العصور. وفي قلب تلك الجغرافيا يقف قطاع غزة: قطعة صغيرة على الخريطة لا تتجاوز 365 كيلومترًا مربعًا، لكنها تختزن من التوتر والتحديات ما يجعلها أكبر من مساحتها أضعافًا مضاعفة.
محمد حسنين هيكل، حين تحدث إلى محمد كريشان على شاشة الجزيرة قبل أكثر من عقد، لم يكن ينقل رواية طريفة عن رابين أو ميتران، بل كان يمارس حرفته الأثيرة: قراءة المستقبل عبر مفاتيح الماضي، والتقاط الخيوط التي يفرّط فيها الآخرون. كان يحذّر مصر والعرب من أن غزة ليست مسألة فلسطينية فحسب، بل قنبلة تسعى إسرائيل منذ زمن طويل إلى دفعها بعيدًا عن خاصرتها، أقرب إلى البحر أو إلى مصر.
اليوم، ونحن نشهد تصاعد الضغوط حول غزة، وامتداد تداعياتها إلى الحدود المصرية والإقليمية، يبدو صوت هيكل وكأنه يخرج من الزمن ليذكّرنا بما أغفلناه. غزة ليست أزمة يومية في نشرات الأخبار، بل عقدة الجغرافيا التي تطارد كل الأطراف.
2. رابين وميتران: الكابوس الذي صار سياسة
الحوار الذي نقله هيكل بين رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين والرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران يلخص عقلية إسرائيلية ممتدة. ميتران، بعفويته الإنسانية، يقول إنه يستيقظ ليلًا كأن غزة كابوس يطارده، ويتمنى لو أنّ البحر ابتلعها. ورابين، على طريقته الواقعية القاسية، يرى غزة عبئًا لا مصلحة لإسرائيل في الاحتفاظ به، حتى ولو كان الثمن تركها للتيه السياسي أو دفعها نحو مصر.
هذه الصورة ليست مجرد استعارة، إنها تكثيف لرؤية إسرائيل لقطاع غزة منذ 1967: عبء ديمغرافي، مأزق أمني، صداع سياسي. إسرائيل لم ترَ في غزة "أرضًا مقدسة" كما في الضفة الغربية، ولم تر فيها عمقًا استراتيجيًا ذا قيمة، بل رأت فيها كتلة بشرية خانقة تتكاثر كالموج، يصعب إخضاعها أو ابتلاعها.
وحين انسحبت إسرائيل من داخل غزة عام 2005، لم يكن ذلك "كرمًا" ولا اعترافًا بحق، بل كان تطبيقًا عمليًا لهذه الفلسفة: أن غزة ليست ربحًا لإسرائيل، بل عبء تحاول التخلص منه بأقل تكلفة، مع إبقائها محاصرة ومقيّدة الحركة.
3. هيكل واستشراف الجغرافيا السياسية
هيكل أدرك أن هذه الرؤية الإسرائيلية لن تبقى في حدود "الأمنيات" أو "الكوابيس". فالدول حين تضيق بأعبائها تبحث عن مخرج، والمخرج هنا واحد من اثنين:
إغراق غزة في الفوضى بحيث تنكفئ على ذاتها وتتحول إلى سجن كبير يعزل نفسه بنفسه.
دفع غزة نحو مصر، إما عبر ضغوط إنسانية (لاجئون يتدفقون عبر رفح)، أو عبر ضغوط سياسية (تحميل مصر مسؤولية إدارة القطاع)، أو عبر مزيج من الاثنين.
وليس من قبيل المصادفة أن كل جولات العدوان الإسرائيلي على غزة تنتهي بزيادة الضغوط على مصر: مطالب بفتح المعابر، أو إدخال مساعدات، أو استضافة جولات تفاوض بين الفصائل. كل ذلك يعكس جوهر القراءة الهيكلية: أن غزة ستظل مطروحة على الطاولة المصرية مهما حاولت القاهرة أن تنأى بنفسها.
4. بين الذاكرة والرؤية: مأساة النسيان العربي
هيكل عبّر عن أسفه لأن العرب - والمصريين خصوصًا - تعاملوا مع الرواية وكأنها حكاية مثيرة، دون أن يستخلصوا منها درسًا. لقد أحببنا أن نردد أن رابين قال إنه يتمنى رمي غزة في البحر، لكننا لم نحب أن نسأل: "وماذا لو حاول أن يرميها فعلًا؟ كيف سنستعد؟"
هنا تكمن مأساة الوعي العربي: نحب القصص، لكننا لا نحب التخطيط. نستمتع بالتذكّر، لكننا لا نجيد الاستعداد.وما كان تحذير هيكل سوى محاولة لإيقاظنا من هذه الغفلة: أن الاستراتيجيات لا تُبنى على النوادر، بل على استعدادات صلبة.
لقد انشغلت العواصم العربية طيلة سنوات بالانقسام الفلسطيني، وكأن القضية صراع داخلي يخص "فتح" و"حماس"، وغابت عنها حقيقة أن إسرائيل تراقب من بعيد، وتستفيد من كل شقاق يفتح الباب لتفكيك الحلم الفلسطيني، وتحويل غزة من جزء من قضية إلى قضية بحد ذاتها.
5. غزة بعد الانفلاق الكبير
حين تحدث هيكل، أشار إلى أن "ما جرى قد جرى"، وأننا بعد "الانفلاق" الذي وقع في الساحة الفلسطينية - في إشارة إلى الانقسام بين غزة والضفة - لم نعد أمام مجرد أزمة بل أمام تحوّل هيكلي. غزة تحولت إلى كيان قائم بذاته، له سلطته وسلاحه وواقعه الخاص، ما جعلها أكثر فأكثر عبئًا على إسرائيل وفرصة للضغط على مصر.
هذا الانفلاق جعل إسرائيل أكثر إصرارًا على فكرة "التخلص من غزة"، وجعل غزة في الوقت نفسه أكثر اعتمادًا على العمق المصري في الغذاء والدواء والأنفاق وحتى الهواء. وهو ما حوّل الحدود المصرية- الغزية إلى خط نار سياسي وإنساني في آنٍ واحد.
والسنوات الأخيرة أثبتت أن هذا "الانفلاق" لم يكن مؤقتًا. بل ترسّخ حتى باتت غزة كيانًا سياسيًا وأمنيًا منفصلًا، له شبكة تحالفات إقليمية (إيران، تركيا، قطر) تختلف عن تلك التي ترتبط بها الضفة الغربية. وهذا التباين جعل مصر في قلب معادلة معقّدة: فهي مطالبة بحماية أمنها القومي من تداعيات غزة، وفي الوقت ذاته لا تستطيع التخلي عن دورها التاريخي في دعم القضية الفلسطينية.
6. مصر وغزة: قدر الجغرافيا لا خيار السياسة
هيكل كان يعرف أن مصر قد ترغب في الابتعاد عن غزة، وقد تحب أن تتعامل معها كملف فلسطيني داخلي، لكنها لا تستطيع. فالجغرافيا لا تسمح. غزة جارة مصر، ومفتاح حياتها يمر عبر معبر رفح. وبالتالي، أي انفجار في غزة لا بد أن يصل صداه إلى سيناء، وأي حصار على غزة لا بد أن يولّد ضغطًا على البوابة المصرية.
هذه الحقيقة الجغرافية جعلت تحذير هيكل أكثر إلحاحًا: إن لم تستعد مصر لهذا اليوم، فإنها ستجد نفسها أمامه بلا عدة ولا خطط. والاستعداد لا يعني فقط الاستعداد الأمني، بل أيضًا الاستعداد السياسي والاقتصادي، لأن غزة ليست قنبلة أمنية فحسب، بل قنبلة إنسانية واجتماعية أيضًا.
وقد ظهر هذا جليًا في كل جولة من جولات التصعيد العسكري: من "الرصاص المصبوب" 2008 إلى "حارس الأسوار" 2021، وصولًا إلى حرب غزة الممتدة بعد 7 أكتوبر 2023. في كل مرة، كان معبر رفح يتحول إلى شريان حياة، وتصبح مصر أمام اختبار مزدوج: كيف تؤدي دورها الإنساني دون أن تتحول إلى بديل عن الاحتلال في إدارة القطاع.
7. إسقاطات على الواقع الراهن
اليوم، وبعد مرور أكثر من عقد على حديث هيكل، تتجلى ملامح ذلك "الكابوس" في أكثر من صورة:
الضغط الإنساني: الحروب والحصار تركت غزة على شفا انهيار متكرر. الكهرباء والمياه والدواء والغذاء كلها عوامل تدفع سكان غزة - البالغ عددهم أكثر من 2.2 مليون - إلى البحث عن متنفس عبر مصر.
الضغط السياسي: واشنطن وعواصم أوروبية طرحت مرارًا أفكارًا لإشراك مصر في ترتيبات "اليوم التالي" لغزة، سواء كضامن أمني أو كإدارة انتقالية أو كشريك في إعادة الإعمار.
الضغط الأمني: سيناء دفعت الثمن الأكبر، حيث تسللت جماعات متطرفة عبر الأنفاق، ما جعل الحدود المصرية- الغزية واحدة من أعقد الملفات الأمنية التي تعاملت معها الدولة المصرية في العقد الماضي.
الضغط الإقليمي: دول عربية عدة حاولت تحميل القاهرة عبء "استيعاب" غزة، سواء عبر فتح أبواب توطين غير مباشر، أو عبر مقترحات لتوسيع القطاع داخل أراضٍ مصرية، وهو ما رفضته مصر رسميًا وبقوة.
إن هذه التحديات تجعل من "رؤية هيكل" إطارًا لا لفهم الماضي فحسب، بل للحاضر والمستقبل أيضًا.
8. بين الرؤية والتحذير: دروس لمصر والعرب
إذا أردنا أن نستخلص من حديث هيكل دروسًا عملية، فإنها تتلخص في النقاط التالية:
أن نرى ما وراء اللحظة: غزة ليست أزمة عابرة، بل معضلة هيكلية في الصراع العربي- الإسرائيلي.
أن نستعد بالسياسة قبل الأمن: لا يكفي أن نغلق المعابر ونبني الجدران، بل لا بد أن نضع تصورًا متكاملاً لما قد يحدث إذا فُرضت غزة علينا.
أن نقرأ النوايا الإسرائيلية ببرود: إسرائيل لا تتعامل مع غزة كأرض "مقدسة"، بل كعبء تريد التخلص منه.
أن ندرك أن الحلول الإنسانية جزء من الأمن القومي: فالجائع والمقهور لا يُضبط بالأسلاك الشائكة.
أن نُبقي غزة قضية فلسطينية لا مصرية: لأن تحويلها إلى "ملف مصري" يعني تفريغ الصراع من جوهره، وهو الاحتلال والحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني.
9. صدى صوت هيكل
في النهاية، يبدو أن هيكل لم يكن يحكي رواية، بل كان يكتب وصية سياسية: غزة ستبقى قنبلة موقوتة، والسؤال هو: على من ستنفجر؟.
إسرائيل تراها كابوسًا وتبحث عمن يحمل عنها العبء. الفلسطينيون يرونها رمزًا ويرفضون التفريط فيها. ومصر - بحكم الجغرافيا - تجد نفسها في قلب هذه المعادلة شاءت أم أبت.
إن لم نستعد لذلك اليوم، سنجد أنفسنا نردد حكاية رابين وميتران مرة أخرى، لكن هذه المرة لا كذكرى، بل كواقعٍ يفرض نفسه. وهذا بالضبط ما أراد هيكل أن يحذرنا منه: أن لا نكتفي بالرواية، بل أن نستخلص العبرة ونبني الاستراتيجية!!
اقرأ أيضاًذكرى ميلاد «الأستاذ».. أبرز المحطات في حياة الكاتب محمد حسنين هيكل
مصطفى بكري: محمد حسنين هيكل أحد أبرز أعمدة الصحافة العربية.. وكان شجاعًا في مواقفه
9 سنوات على رحيل «الأستاذ».. محطات مهمة في حياة محمد حسنين هيكل
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.