لطالما اعتقد الإنسان أن وجوده في هذا الكون أشبه بالمعجزة، إذ إن سلسلة طويلة ومعقدة من الظروف البيئية والبيولوجية كان لا بد أن تتوفر بدقة حتى يظهر الجنس البشري على كوكب الأرض، لكن دراسة علمية حديثة نُشرت في مجلة Science Advances جاءت لتقلب هذا التصور رأساً على عقب، مؤكدة أن الحياة الذكية قد تكون أكثر شيوعاً في الكون مما نتخيل.
بين الصدفة والحتمية
النظرية التقليدية التي سادت لعقود، والمعروفة باسم نموذج الخطوات الصعبة، كانت ترى أن ظهور الحياة العاقلة أمر بالغ الندرة. فقد طرح الفيزيائي براندون كارتر عام 1983 أن البشر ظهروا متأخرين جداً في عمر الشمس والأرض، ما يعني أن احتمال تطور حياة ذكية شبيه بالبشر في أي كوكب آخر يكاد يكون مستحيلاً. وفق هذا النموذج، هناك خطوات بيولوجية شديدة التعقيد والندرة كان لا بد أن تحدث بالتتابع، مثل نشأة الحياة، ثم التمثيل الضوئي، ثم الكائنات متعددة الخلايا، وصولاً إلى الإنسان العاقل.
لكن الفريق البحثي الجديد بقيادة دانيال ميلز من جامعة ميونخ، وبمشاركة البروفيسورة جينيفر ماكالادي من جامعة ولاية بنسلفانيا، قدّم تفسيراً مغايراً. فبدلاً من النظر إلى هذه المحطات على أنها صدفة شبه مستحيلة، يرى الباحثون أنها نتيجة تفاعلات متواصلة بين جيولوجيا الأرض وأحيائها. أي أن التطور لم يكن نتاج “حظ أعمى”، بل سلسلة مترابطة جعلت كل خطوة تمهد للأخرى بشكل شبه حتمي.
الحياة كاستجابة لكوكب حي
توضح ماكالادي أن تطور البشر لم يكن حدثاً استثنائياً أو عشوائياً، بل نتيجة متوقعة لمسار الأرض الطبيعي:
“وجودنا لم يكن صدفة، بل نتيجة حتمية لمسار تطور كوكبنا، وبالمثل يمكن أن تتكرر الظاهرة في عوالم أخرى.”
ويشير الباحثون إلى أن النماذج القديمة لم تأخذ في الحسبان أن الأرض لم تكن صالحة للحياة البشرية إلا بعد مرور مليارات السنين من نشأتها، وأن ظهور بعض الظروف مثل الأوكسجين في الغلاف الجوي كان شرطاً أساسياً لظهور الكائنات المعقدة. وبذلك فإن التطور لم يتأخر، بل جاء “في موعده” مع نضوج البيئة.
من “خطوات صعبة” إلى “منحدر سلس”
الدراسة الجديدة تلفت النظر إلى أن ما اعتُبر أحداثاً فريدة ربما لم يكن كذلك. فالسجل الأحفوري والجيني للأرض ما زال ناقصاً، وقد تكون بعض العمليات البيولوجية قد تكررت أكثر من مرة عبر التاريخ. فعلى سبيل المثال، كان يُعتقد أن عملية حصول الخلايا على البلاستيدات – الأسلاف المباشرة للبلاستيدات الخضراء – حدثت مرة واحدة فقط، لكن أبحاثاً حديثة أظهرت أنها ربما تكررت لاحقاً بشكل مستقل.
هذا الطرح يجعل فكرة ظهور الحياة الذكية أقل ندرة مما كنا نعتقد، وربما أقرب إلى “قانون طبيعي” يفرضه تفاعل الكواكب مع أحيائها، لا مجرد استثناء كوني.
ماذا عن الحياة خارج الأرض؟
الدراسة لا تثبت بشكل مباشر وجود كائنات ذكية في الفضاء، لكنها تقدم إطاراً علمياً يمكن البناء عليه. فمراقبة الكواكب خارج المجموعة الشمسية ورصد الغلاف الجوي بحثاً عن الأوكسجين مثلاً، قد يكون مؤشراً على أن مساراً تطورياً مشابهاً قد تكرر في أماكن أخرى.
ويرى ميلز أن هذه الرؤية تخفف من “الضغط الوجودي” على البشرية: فإذا لم نكن النوع الوحيد القادر على بناء حضارة متقدمة، فهذا يعني أن مستقبل الذكاء الكوني لا يتوقف علينا وحدنا. يقول ميلز:
“أتمنى أن نصمد كبشرية، لكن لو لم نفعل، فسأشعر بالارتياح إذا حصلت الأرض على فرصة أخرى مع نوع ذكي جديد.”
خلاصة
بينما اعتدنا النظر إلى وجودنا كمعجزة غير قابلة للتكرار، تفتح هذه النظرية الباب أمام تصور آخر: أن الحياة الذكية ليست نادرة، بل ربما نتيجة حتمية لتطور الكواكب. وإذا صح ذلك، فإننا لسنا وحدنا في هذا الكون الشاسع، وما زالت أمام البشرية فرصة لاكتشاف شركاء محتملين في الفضاء.