
في خطوة وُصفت بأنها تأكيد جديد على سياسة "التوجّه شرقًا" التي تتبناها إيران، قام الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان بزيارة رسمية إلى بيلاروس هذا الأسبوع، وهي دولة حليفة لروسيا وتخضع لعقوبات غربية مشددة.
الزيارة، التي جاءت بعد أسابيع قليلة من انتهاء الحرب التي استمرت 12 يومًا بين إيران وإسرائيل، اعتُبرت من قِبل المراقبين بمثابة إعلان صريح لخيارات طهران الاستراتيجية في مرحلة تتسم بتصاعد الضغوط الأمريكية والأوروبية.
خلفية الزيارة وأبعادها السياسية
قدّمت وسائل الإعلام الرسمية في طهران الزيارة بوصفها جزءًا من سياسة منظمة تهدف إلى مقاومة الضغوط الغربية وإيجاد بدائل للتعاون الدولي بعيدًا عن محور الغرب.
صحيفة "إيران"، الناطقة باسم الإدارة، وصفت القرار بأنه امتداد طبيعي لسياسة إيران القائمة على التعددية القطبية واحترام السيادة الوطنية والاستقلال، بينما اعتبرت وكالة "نور نيوز" المقرّبة من مكتب المرشد الأعلى أن الزيارة تحمل "رسالة واضحة ضد الأحادية العالمية والعقوبات".
هذا الطرح يعكس إدراكًا متزايدًا لدى القيادة الإيرانية بأن البيئة الدولية لم تعد تسمح بالمراهنة على تحسين العلاقات مع أوروبا أو الولايات المتحدة، بل باتت الحاجة أكبر إلى تعميق الشراكات مع قوى بديلة مثل روسيا، الصين، ودول آسيوية أخرى.
سياسة "التوجّه شرقًا": من أحمدي نجاد إلى بيزشكيان
تعود جذور هذه السياسة إلى فترة رئاسة محمود أحمدي نجاد، عندما بدأت طهران في تعزيز علاقاتها مع الصين وروسيا والهند وأعضاء منظمة شنغهاي للتعاون. لاحقًا، رسّخ المرشد الأعلى علي خامنئي هذا التوجّه في عام 2018 تحت شعار "التوجّه شرقًا"، مؤكّدًا على الاعتماد على الشركاء غير الغربيين مع اشتداد العقوبات.
ويشير المعلق السياسي إسفنديار خدائي إلى أن زيارة بيزشكيان لمينسك تؤكد أن هذه الاستراتيجية لم تعد محصورة بمرحلة أحمدي نجاد أو إبراهيم رئيسي، بل أصبحت ركيزة دائمة للسياسة الخارجية الإيرانية.
في الوقت نفسه، يوضح محللون أن تصلّب الموقف الأوروبي إزاء الملف النووي الإيراني وتكثيف العقوبات الأمريكية دفع طهران أكثر فأكثر نحو محور موسكو.
مينسك كرسالة سياسية
اختيار بيلاروس تحديدًا ليكون من أوائل محطات بيزشكيان الخارجية حمل دلالات واضحة. فقد أشار تعليق لوكالة "موج" الإخبارية إلى أن التوقيت يعكس "تركيز طهران على تعزيز علاقاتها مع الدول المناهضة للغرب والمؤيدة لروسيا"، خاصة مع انعدام المرونة الأوروبية في التعاطي مع الملف الإيراني مؤخرًا.
في السياق ذاته، دافع علي لاريجاني، أمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، عن هذا الخيار قائلاً: "عندما يرفض الغرب التعامل معنا، فإننا نتجه إلى الصين ودول أخرى"، مشيرًا إلى أن الانعزال ليس خيارًا مطروحًا.
الرسائل المشتركة مع بيلاروس
تتقاسم طهران ومينسك ظروفًا متشابهة، فكلاهما يخضع لعقوبات دولية صارمة ويواجه عزلة متزايدة بسبب مواقفهما السياسية وتحالفاتهما مع موسكو. ومن هنا، برزت الزيارة كإشارة مزدوجة إلى تحدي العقوبات وإبراز القدرة على الصمود.
النائب علي رضا سليمي، عضو هيئة رئاسة البرلمان الإيراني، اعتبر أن زيارات الرئيس إلى أرمينيا وبيلاروس تؤكد أن إيران "لا تتأثر بالعقوبات".
وقد تعزز هذا الطرح عبر الاتفاقيات التي تم توقيعها في مينسك، حيث أعلن وزير الخارجية عباس عراقجي عن ترقية "خارطة التعاون الشامل" للفترة 2023–2026 إلى مستوى اتفاقية شراكة استراتيجية.
كما ناقش الجانبان آفاق التعاون داخل الاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون، وهي منصات تسعى إيران لتوظيفها في كسر الحصار الغربي.
التعاون العسكري والأمني
على الرغم من أن المحادثات ركّزت على التعاون الاقتصادي، فإن البعد العسكري لم يغب عن المشهد. فقد عززت طهران ومينسك خلال السنوات الأخيرة شراكتهما الأمنية، بدءًا من توقيع مذكرة دفاعية في أغسطس 2023، وصولاً إلى مشاركة قوات بيلاروسية في مناورات عسكرية إيرانية عام 2024.
كما افتتحت إيران أول مكتب للملحق العسكري في مينسك خلال عام 2025، في مؤشر واضح على تنامي هذا البعد.
ويثير هذا التعاون قلقًا متزايدًا لدى العواصم الغربية، خاصة مع سعي بيلاروس لتطوير قدراتها الصاروخية، بما في ذلك خيارات نووية محتملة ضمن أنظمة "بولونيز" الصاروخية. ومع امتلاك إيران خبرة واسعة في مجال تطوير الصواريخ، فإن تقارب البلدين قد يشكل مصدر إزعاج إضافي للناتو وأوكرانيا.
الجانب الاقتصادي.. أرقام متواضعة لكن رمزية
رغم الخطاب المتفائل، يبقى حجم التبادل التجاري بين البلدين محدودًا. فقد أشار وزير الخارجية عباس عراقجي إلى أن حجم التبادل بلغ 140 مليون دولار في النصف الأول من عام 2025، أي بزيادة نسبتها 14% عن العام السابق، لكنها لا تزال أرقامًا متواضعة.
مع ذلك، فإن هذه المبادلات تحمل دلالات سياسية مهمة، إذ تُظهر قدرة الطرفين على إيجاد منافذ بديلة بعيدًا عن القيود الغربية.
كما يراهن البلدان على تطوير خطوط اتصال جديدة، حيث أشار رضا مسرور، رئيس المجلس الأعلى للمناطق الحرة في إيران، إلى أن بيلاروس يمكن أن تستفيد من الموانئ الإيرانية للوصول إلى المياه المفتوحة عبر خط مرفأ محج قلعة – بحر قزوين.
هذا المسار من شأنه أن يمكّن مينسك من تجاوز القيود المفروضة في البلطيق والارتباط بممر الشمال – الجنوب التجاري للوصول إلى أسواق الشرق الأوسط وأفريقيا.
رسالة تحدٍ ورسالة تحالف
زيارة الرئيس الإيراني إلى بيلاروس تمثل أكثر من مجرد جولة دبلوماسية عادية، فهي خطوة تحمل رسائل متعددة: من جهة، تعكس إصرار طهران على تعميق اندماجها في المحور الشرقي المناهض للغرب، ومن جهة أخرى، تبعث برسالة تحدٍ إلى واشنطن وبروكسل مفادها أن إيران ليست في عزلة مطلقة، بل قادرة على بناء شراكات سياسية واقتصادية وعسكرية بديلة.
ومع أن حجم التعاون الاقتصادي لا يزال محدودًا، إلا أن الرمزية السياسية للتحالف مع دول مثل بيلاروس تبقى ذات قيمة استراتيجية لطهران في سياق لعبة التوازنات الدولية. وفي ظل استمرار العقوبات الغربية، يبدو أن سياسة "التوجّه شرقًا" مرشحة لمزيد من التجذر، لتشكل أحد الأعمدة الثابتة في السياسة الخارجية للجمهورية الإسلامية خلال السنوات المقبلة.