في عالم اليوم، حيث أصبحت الهواتف الذكية والأجهزة اللوحية جزءًا لا ينفصل عن حياة الأسر، يطلّ علينا مفهوم جديد يثير قلق الأطباء وعلماء النفس، وهو ما يعرف بـ"الخرف الرقمي Digital Dementia". هذه الحالة لا ترتبط بالشيخوخة كما هو شائع عند كبار السن، بل تصيب الأطفال والمراهقين الذين يقضون ساعات طويلة أمام الشاشات. الطفل الذي كان يومًا يعتمد على ذاكرته في الحفظ والتذكر أصبح يلجأ إلى الجهاز ليزوّده بكل معلومة، ومع مرور الوقت تضعف ذاكرته قصيرة المدى، ويتراجع تركيزه، ويجد صعوبة في استدعاء التفاصيل البسيطة.
وقد وصف علماء الأعصاب في كوريا الجنوبية هذه الظاهرة منذ أكثر من عشر سنوات، محذرين من أن الإفراط في التكنولوجيا يغيّر بنية الدماغ ويجعل الفص الأيسر، المسؤول عن اللغة والتحليل، أقل نشاطًا، بينما يزداد اعتماد الدماغ على الفص الأيمن المرتبط بالصور السريعة والانفعالات، فيظهر الطفل وكأنه يعاني أعراض خرف مبكر (Imagination Playground، 2022؛ Healthline، 2021).
دراسات حديثة أكدت خطورة هذا الأمر، فبحث كندي شمل أكثر من ثلاثة آلاف طفل وجد أن الاستخدام المفرط للشاشات يقلل من جودة النوم ويؤثر سلبًا على الذاكرة العاملة والقدرة على ضبط النفس (Laurier University، 2022؛ PubMed ID: 35164464).
كما أظهرت دراسة نُشرت في Journal of Behavioral Psychology عام 2020 أن الأطفال الذين يقضون أكثر من أربع ساعات يوميًا أمام الأجهزة كان أداؤهم أضعف في اختبارات الانتباه والتركيز مقارنة بأقرانهم.
وفي دراسة لـ Zhang وزملائه (2021) على أطفال في مرحلة ما قبل المدرسة، وُجد أن الأطفال الذين حافظوا على ساعة واحدة فقط يوميًا من وقت الشاشة كانت ذاكرتهم العاملة أفضل بمقدار 3.5 ضعف، بينما انخفض الأداء لدى من تجاوزوا هذا الحد بنسبة 48% (PMC9113848).
الأمر لا يقف عند حدود الذاكرة، بل يمتد إلى اللغة، فقد وجدت مراجعة منهجية شملت أكثر من 42 دراسة أن زيادة وقت الشاشة ارتبطت سلبًا بالتطور اللغوي والمعرفي للأطفال دون 12 عامًا (PMC9113848).
ودراسة كندية تابعت 2441 طفلًا بين عمر 2–5 سنوات أكدت أن الأطفال الذين قضوا وقتًا أطول أمام الشاشات أظهروا تأخرًا في النمو اللغوي وحل المشكلات، حتى بعد ضبط العوامل الأسرية والتعليمية (Time Magazine، 2019).
كما أظهرت صور الرنين المغناطيسي لأطفال تتراوح أعمارهم بين 3 و5 سنوات أن من تجاوزوا ساعة شاشات يوميًا دون إشراف أهلي لديهم نمو أقل في المادة البيضاء المسؤولة عن اللغة والمهارات المعرفية (Generation Alpha Report، 2020).
الأثر النفسي لهذا الخرف الرقمي بالغ الخطورة؛ فالطفل يفقد تدريجيًا قدرته على التفكير النقدي وحل المشكلات، وتضعف دافعيته للتعلم، لأنه اعتاد على المتعة الفورية بضغطة زر. دراسة في Nature Scientific Reports (2023) وجدت أن الاستخدام المتزايد للشبكات الاجتماعية أو الألعاب الإلكترونية مرتبط بزيادة أعراض فرط الحركة وتشتت الانتباه (ADHD) عبر سنوات، نتيجة ضعف التحكم في الاندفاع والذاكرة العاملة. كما أظهر تحليل منشور على arXiv (2025) أن الأطفال الذين يستخدمون الأجهزة أكثر من 4 ساعات يوميًا لديهم معدلات أعلى من القلق والاكتئاب، بسبب قلة النوم وتراجع النشاط البدني.
من الجانب الاجتماعي، فإن الطفل الذي يعيش معظم وقته في العالم الرقمي يجد صعوبة في التفاعل الواقعي مع الآخرين. يقل تواصله البصري، وتضعف مهاراته في قراءة تعبيرات الوجه أو لغة الجسد. تقرير Digital Media and Mental Health (Wikipedia، 2022) أشار إلى أن الإفراط في استخدام الأجهزة مرتبط بزيادة مشاعر الوحدة والاكتئاب بين المراهقين. ومع استبدال اللعب الجماعي بألعاب إلكترونية فردية، يزداد خطر الانطواء والعزلة، بل وقد يتطور الأمر إلى قلق اجتماعي في مراحل لاحقة من العمر.
الأهل يقفون في خط المواجهة الأول مع هذا الخطر الصامت. الخبراء ينصحون بتحديد وقت للشاشة لا يتجاوز ساعتين يوميًا للأطفال (توصيات WHO وAAP)، وتشجيعهم على ممارسة أنشطة بديلة مثل الرياضة، الرسم، والموسيقى. كذلك فإن قضاء وقت عائلي مشترك بعيدًا عن الأجهزة يمنح الطفل ذاكرة عاطفية قوية تبني فيه الأمان والانتماء. إغلاق الأجهزة قبل النوم، والتحدث مع الطفل عن مشاعره وتجربته الرقمية، يخلق وعيًا تدريجيًا يحميه من السقوط في فخ الخرف الرقمي.
إن مردود هذه الظاهرة من الناحية النفسية والاجتماعية لا يستهان به، فهي لا تؤثر فقط على ذاكرة الطفل أو تحصيله الدراسي، بل تمس هويته وشخصيته وعلاقاته. الأبحاث الحديثة من كندا، كوريا، وأمريكا تؤكد أن الاستخدام المفرط للشاشات مرتبط بتغيرات في الدماغ، ضعف في الذاكرة، تأخر لغوي، زيادة القلق والاكتئاب، وانخفاض المهارات الاجتماعية. إن حماية عقول الأطفال من الخرف الرقمي مسؤولية مشتركة تبدأ من البيت وتمتد إلى المدرسة والمجتمع، فالتوازن بين العالم الواقعي والرقمي هو السبيل للحفاظ على أجيال أكثر وعيًا وصحة ومرونة.