في ليبيا، لا تأتي الأزمات عبر النشرات الإخبارية فحسب، بل تظهر في طوابير الوقود الطويلة، وتأخر مرتبات موظفي الدولة، وانقطاع الكهرباء المتكرر. آخر هذه المؤشرات ما تردد من أنباء حول حادث أمني في مقر المؤسسة الوطنية للنفط في مايو الماضي.
المؤسسة لم تؤكد التفاصيل ولم تنفها، تاركة المجال مفتوحًا للتكهنات. لكن أهمية الحادث لا تكمن في تفاصيله، بل في دلالته: النفط الليبي، مصدر أكثر من 90٪ من إيرادات الدولة، يواجه مرة أخرى تحديات تتجاوز الجوانب التقنية إلى قلب الصراع السياسي.
ليس التلويح بإعلان "القوة القاهرة" أمرًا جديدًا في تاريخ القطاع النفطي الليبي ففي عامَي 2018 و2020، لجأت المؤسسة إلى هذا الإجراء الاستثنائي بذريعة الظروف الأمنية. لكن في كل مرة، كانت الحسابات السياسية حاضرة، تتجاوز الاعتبارات التقنية المحضة.
المشكلة الأساسية تكمن في تحول المؤسسة من كيان مهني تقني إلى أداة توظيف سياسي. النفط لا يتدفق اليوم إلا بموافقة من يسيطر على المنشآت والموانئ، فيما أصبح الولاء السياسي معيارًا للتعيين أكثر من الكفاءة والخبرة.
هذا التحول أدى إلى تهميش كوادر فنية كانت تمثل العمود الفقري للمؤسسة. غيابهم يعني غياب التوازن، والقدرة على التفاوض المهني مع الأسواق العالمية. كما أن تكرار تدخل أطراف مسلحة في ملف النفط خلق مناخًا من الشك والريبة، أضر بثقة الداخل والخارج على حد سواء.
من حيث الأرقام، يبدو الأداء مقبولًا: الإنتاج اليومي يبلغ نحو 1.2 مليون برميل، وهو مستوى لم تحققه ليبيا منذ سنوات. لكن هذا الرقم يخفي واقعًا معقدًا.
العائدات النفطية لا تترجم إلى تحسن حقيقي في حياة الليبيين. الانقطاعات الكهربائية مستمرة، والخدمات الأساسية تتدهور، والرواتب تتأخر. السبب؟ سوء إدارة الموارد، وغياب الشفافية في توزيع العائدات، وتسلل شبكة موازية من المصالح العابرة للمؤسسات.
في مدينة مثل سبها، قد ينتظر المواطنون أيامًا للحصول على لتر من البنزين، في بلد يُصدر مئات آلاف البراميل يوميًا. في بنغازي، يسير الناس بجانب أبراج الكهرباء المنهارة منذ سنوات، دون أن تملك الدولة خطة لصيانتها.
أزمة كوفيد-19 مثّلت مثالًا صارخًا: توقف التصدير أدى إلى شلل اقتصادي، وتعثّرت الدولة في الوفاء بالتزاماتها. الخروج من تلك الأزمة تطلب نوعًا من الاستقرار المؤسسي، وليس مجرّد ارتفاع مؤقت في الأسعار العالمية.
الخسارة الكبرى لا تُقاس بعدد البراميل غير المصدّرة، بل بمن غادروا المؤسسة من أصحاب الخبرة والحنكة.
مهنيون أمثال مصطفى صنع الله، وعماد بن رجب، وعبدالرحمن بن يزة، لم يكونوا مجرد مدراء، بل حافظوا على الحد الأدنى من التنسيق والهدوء في أوقاتٍ كانت فيها البلاد على وشك الانقسام الكامل. هؤلاء فهموا أن الحياد لا يعني الانفصال عن الواقع السياسي، بل إدارة العلاقة معه بحكمة.
في فترة ما بين 2017 و2019، تحققت زيادة واضحة في الإنتاج والاستقرار، ليس لأنها كانت فترة رخاء سياسي، بل لأن المؤسسة كانت تُدار بعقلية مهنية، استطاعت أن تبقي خطوط الإنتاج خارج لعبة المحاصصة.
اليوم، نجد أن هذه الخبرات غائبة، والقرارات الاستراتيجية تُتخذ في دوائر مغلقة، دون مرجعية مهنية واضحة، فيما تزداد المؤسسة هشاشة في وجه الضغوط الداخلية والخارجية، والأسوأ من ذلك، أن الذاكرة المؤسسية تتآكل، ولا يُنظر إلى الكفاءات السابقة إلا باعتبارها "بقايا مرحلة مرّة"
ليست المشكلة في الهيكل الإداري وحده، ولا في الأزمات الظرفية. الحل يبدأ بإعادة الاعتبار للمهنية والكفاءة، واستعادة الثقة في قيادة المؤسسة، فالمؤسسة تحتاج إلى تعيينات مبنية على السيرة المهنية لا على التوازنات اللحظية، وإلى آليات شفافة للمحاسبة، وحماية حقيقية للمؤسسة من الابتزاز السياسي.
هناك تجارب محلية يمكن الاستفادة منها. فترات من الهدوء النسبي شهدت إدارة رشيدة ومهنية مكّنت المؤسسة من العمل بفعالية. من صاغوا تلك المرحلة لم يكونوا خارقين، بل فقط ملتزمين بمفهوم المؤسسة كأداة وطنية، لا كغنيمة سياسية.
ولا بد أن يُفهم أن العامل المهني لا يتعارض مع الانتماء الوطني. بل العكس، فإن من يُحسن التفاوض مع الشركات الدولية، ويعرف لغة الأرقام، ويحترم الشفافية، هو الأقدر على حماية المصلحة الليبية.
الفرصة لا تزال قائمة
النفط الليبي ليس مجرد سلعة، بل العمود الفقري لبقاء الدولة. لكن إذا استمر استخدامه كورقة ضغط سياسي، فإن استقراره سيكون دائمًا مؤقتًا، ومنقوصًا.
الفرصة لا تزال قائمة لإعادة بناء مؤسسة النفط على أسس مهنية. المهمة ليست سهلة، لكن تأخيرها لن يقلل من كلفتها، بل يزيدها. إما أن نستعيد المسار المهني، أو نستمر في دفع الثمن من جيوب المواطنين ومستقبل أبنائهم. وإذا كان من الصعب إعادة كل من غادر، فإن من السهل استعادة ما مثلته تلك التجارب: نموذج للمهنية الصامتة، التي تُحسن إدارة الثروة، وتعرف أن النفط ليس فقط برميلًا، بل أمانة وطن.