مع بداية النصف الأول من شهر أغسطس، يدخل الأقباط الأرثوذكس في حالة روحانية خاصة، مع مواصلة صوم العذراء مريم، ويعد من أبرز الأصوام القبطية وأكثرها قربًا إلى قلوب المؤمنين، صوم يستمر لمدة 15 يومًا، يمتزج فيه الإيمان بالعاطفة، وتتحول خلاله الكنائس إلى مراكز للعبادة اليومية، تتعالى فيها الصلوات والتسابيح، احتفاءً بمكانة العذراء في العقيدة والتراث.
يُعد صوم العذراء من أكثر الأصوام شعبية في الكنيسة القبطية، نظرًا للمكانة الفريدة التي تحتلها السيدة مريم في وجدان الأقباط، حيث تُقيم الكنائس القداسات اليومية، ويحرص الآلاف على حضور نهضات روحية ومسابقات دينية وتسابيح تُقام طوال أيام الصوم.
ويمثل هذا الموسم أيضًا فرصة للكثيرين لزيارة الكنائس والأديرة التاريخية التي تحمل اسم السيدة العذراء، خاصة تلك التي ارتبطت بمسار رحلة العائلة المقدسة في مصر، لتتحول إلى محطات حج محلية وروحية تمزج بين الإيمان والتاريخ.
دير المحرق بأسيوط.. أقدم المحطات المقدسة
يُعد دير السيدة العذراء بالمحرق، الواقع عند سفح جبل قسقام غرب مدينة القوصية بمحافظة أسيوط، من أبرز المعالم في مسار العائلة المقدسة. فوفقًا للتقاليد القبطية، أقامت فيه السيدة العذراء وابنها السيد المسيح ويوسف النجار نحو ستة أشهر، وهو ما أكسب المكان قداسة خاصة.
ويحتضن الدير واحدة من أقدم الكنائس في العالم، وهي الكنيسة الأثرية التي بُنيت حول مغارة منحوتة في الصخر، يعتقد أنها كانت المكان الذي مكثت فيه العائلة المقدسة، وتعود نشأة الدير إلى الأنبا باخوميوس، الذي اختار هذا الموقع لبناء مجتمع رهباني حول الكنيسة المقدسة، ليصبح اليوم مزارًا روحانيًا وسياحيًا يزوره الآلاف سنويًا، وخاصة خلال صوم العذراء.
دير جبل الطير بالمنيا.. المزار المُطل على النيل
يحتضن دير العذراء بجبل الطير أعدادًا كبيرة من الزوار. يقع الدير على قمة الجبل المطل على النيل، ويُعتقد أن العائلة المقدسة مكثت به أثناء رحلتها، وقد شُيدت كنيسة أثرية فى القرن الرابع على يد الملكة هيلانة، والدة الإمبراطور قسطنطين.
كنيسة العذراء بالقصير
في جنوب محافظة البحر الأحمر، بمدينة القصير، تقف كنيسة السيدة العذراء والقديسة بربارة كواحدة من الشواهد التاريخية على تداخل العمارة بالإيمان، أنشأها الإيطاليون داخل مجمع شركة الفوسفات عام 1937، ككنيسة كاثوليكية تحمل اسم القديسة بربارة، حامية عمال المناجم، قبل أن تتحول لاحقًا إلى كنيسة أرثوذكسية تحمل اسم السيدة العذراء.
وتعد الكنيسة تحفة معمارية فريدة، تجمع بين النقوش الإيطالية التي تعود إلى ثلاثينيات القرن الماضي، والأيقونات القبطية المرسومة في التسعينيات، مما يجعلها مزارًا مميزًا، لا سيما في مواسم الأعياد والصوم، حيث يقصدها الزوار للتبرك والتأمل.
دير البراموس بوادى النطرون
يعد دير السيدة العذراء البراموس من أشهر أديرة الرهبنة القبطية، ويعود إلى القرن الرابع الميلادي. يحمل اسم "دير الروم" لأنه تأسس على يد راهبين رومانيين، ويضم كنائس مكرسة للعذراء ويستقبل زوارًا طوال العام، وتزداد الزيارات فى صومها.
كنيسة العذراء بحارة زويلة
تحتفظ كنيسة العذراء بحارة زويلة بتراث قبطى عريق، وتعد من أقدم الكنائس، حيث تعود إلى القرن العاشر الميلادى، وتضم أيقونات نادرة للعذراء، وتشهد الكنيسة زخمًا روحيًا كبيرًا خلال فترة الصوم، وتتزين بأكاليل الزهور والشموع.
كنيسة العذراء بالمعادي
أما في قلب العاصمة، وعلى ضفاف النيل، فتقع كنيسة السيدة العذراء بالمعادي، التي تُعد من أهم الكنائس التي تحظى بزيارة كثيفة خلال صوم العذراء، ويعتقد أن العائلة المقدسة عبرت من هذا الموقع بالنيل إلى الصعيد، خلال رحلتها الطويلة داخل مصر.
وعرفت هذه الكنيسة القديمة بعدة أسماء، أبرزها "كنيسة المرتوتي" أو "العدوية"، وتعود تسميتها حسب بعض الروايات إلى أميرة مغربية أقامت بالمنطقة، أو إلى "المرور" الذي قامت به السيدة العذراء في رحلتها المقدسة.
ويمتاز موقع الكنيسة بأنه سياحي وأثري بامتياز، حيث تقع على شاطئ النيل مباشرة، في أحد أكثر المواقع جاذبية بالعاصمة، ما يجعلها محطة رئيسية للزوار خلال صوم العذراء، يجتمع فيها التاريخ بالعقيدة، والقداسة بجمال المكان.
كنيسة الزيتون بالقاهرة
تعد كنيسة العذراء بالزيتون من أشهر الكنائس المريمية فى العالم، حيث شهدت ظهورات العذراء مريم فوق قبابها عام 1968، بحضور الآلاف، ما جعلها مزارًا مريميًا عالميًا، وخلال الصوم، تزداد الفعاليات الروحية بها، وتُقام قداسات وسهرات تراتيل يومية.
مزارات شعبية فى القرى والنجوع
.. بالإضافة إلى الأديرة الكبرى، تنتشر فى القرى والنجوع كنائس مريمية صغيرة، مثل كنيسة العذراء بديروط، وكنيسة العذراء بالفيوم، والعذراء بالمنصورة، حيث تقام الصلوات الشعبية، وترفع النذور والطلبات، وسط مشاهد تجمع الروحانية والبساطة.
عذراء مصر.. جسر إيماني وتاريخي بين الشعوب
وتظل السيدة العذراء مريم، بشخصها المقدس وسيرتها الطاهرة، جسرًا مشتركًا بين الديانات السماوية، ورمزًا خالدًا في وجدان المؤمنين، ويعد صومها موسمًا فريدًا يجدد فيه الأقباط عهدهم بالإيمان، وتستعيد فيه الأماكن المقدسة عبقها الروحي والتاريخي، وسط مشاهد من المحبة والتقوى، تملأ كنائس مصر نورًا وبهاء.