يأتي صوم السيدة العذراء كل عام محمّلًا بنفحات روحية خاصة، ترفع قلوب المؤمنين إلى التأمل في حياة أم النور، القديسة مريم العذراء، التي اختارها الله لتكون مشاركة لعملية الخلاص، وأمًا بالجسد للسيد المسيح له المجد.
فقد وُلدت القديسة مريم في بيت تقي من والدين بارّين هما يواقيم وحنة، بعد سنين طويلة من الانتظار والعقم. كانت ولادتها معجزة بحد ذاتها، واستجابة إلهية لصلوات والديها. منذ صغرها، نُذرت لخدمة الله في الهيكل، فنشأت في جو من العبادة والطهارة، وتعلّمت الشريعة والناموس، وعاشت حياة تأمل وخشوع.
وقد ذكر التقليد الكنسي أنها دخلت الهيكل وهي في سن ثلاث سنوات، وظلت هناك حتى سن الثانية عشرة أو الرابعة عشرة، تحت رعاية الكهنة، وفي عزلة عن ضوضاء العالم.
كان المجتمع اليهودي آنذاك مجتمعًا محافظًا تقليديًا، يتسم بالصرامة الدينية والتمسك بالعادات الناموسية. وكانت مكانة المرأة محدودة، يُنظر إليها كوسيلة للنسل، وتُرتب لها الزيجات في سن مبكرة.
كان الانحراف عن الأعراف أو الحمل خارج إطار الزواج يُعد أمرًا فادحًا، قد يصل إلى حد الرجم. لذا فإن قبول العذراء مريم للبشارة الإلهية لم يكن مجرد طاعة، بل شجاعة فائقة الإيمان في مواجهة احتمالات الرفض، بل وحتى الموت.
فبينما كانت العذراء في بيتها في الناصرة، ظهر لها الملاك جبرائيل وقال لها: "السلام لكِ أيتها الممتلئة نعمة، الرب معكِ. مباركة أنتِ في النساء" لوقا 1: 28
وقد اضطربت مريم من هذا السلام، لكن الملاك طمأنها وأخبرها أنها ستلد ابن العلي، يسوع، مخلص العالم. سألت العذراء ببراءة:
"كيف يكون لي هذا وأنا لستُ أعرف رجلًا؟"
فأجابها الملاك:
"الروح القدس يحلّ عليكِ، وقوة العلي تظللك، فلذلك أيضًا القدوس المولود منكِ يُدعى ابن الله." لوقا 1: 35
رغم ضخامة الأمر، والمخاطر الاجتماعية والإنسانية، لم تتردد العذراء مريم، بل أجابت بأروع كلمات الطاعة والإيمان:
"هوذا أنا أمة الرب، ليكن لي كقولك." لوقا 1: 38 بهذه الكلمات بدأت رحلة الخلاص. لم تناقش، لم تساوم، لم تخف، بل سلمت إرادتها بالكامل لمشيئة الله، لتصير أمًا للرب، وحاملة للبشارة، ورمزًا للطهارة والخضوع الكامل لإرادة السماء.
ولو تأملنا في حياة مريم بعد قبول هذه المهمة المقدس وقد تكون غامضة غير مأمونة العواقب في نظرها، نجدها قد اتمتها على اكمل وجه، فأحبت يسوع الطفل وقامت برعايته وتعليمه ودعمه ساندته حتى الصليب، حتى جاز السيف في نفسها كما قال الكتاب. فالعذراء مريم هنا لم تقم فقط بقبول الخدمة كتحصيل حاصل او لمجرد المنصب فهي لم تكن تعلم ما ينتظرها فهل نتعلم منها ونحن نقبل الخدمة والدعوة من الله لنخدم في كنائسنا او بيوتنا او وسط جيراننا وعائلاتنا
اخيرًا، في زمن صوم السيدة العذراء، نتأمل في إيمانها، وطهارتها، وطاعتها، ونحاول أن نقتدي بفضائلها. إنها الأم التي تحفظ أولادها، وتُرينا كيف تكون الطاعة طوق نجاة، والإيمان درب خلاص.
السلام لكِ يا مريم، يا والدة الإله.
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق