تتزايد الأسئلة حول مستقبل الطلب على النفط، في ظل تصاعُد التوجه العالمي نحو كهربة النقل، وتزايد الضغوط البيئية على شركات الطاقة، وتغيُّر مواقف بعض الولايات الأميركية من الوقود الأحفوري.
ويرى مستشار تحرير منصة الطاقة المتخصصة (مقرّها واشنطن)، خبير اقتصادات الطاقة الدكتور أنس الحجي، أن هذه الضغوط تأتي في وقت تتغير فيه التوجهات السياسية والمناخية بصورة غير متوقعة، ما يدفع المحللين إلى إعادة النظر في توقعاتهم.
وأوضح أن كهربة الشاحنات، خصوصًا في الصين، تُمثّل عاملًا مهمًا في التأثير بالطلب على النفط مستقبلًا، لكنه يُحذّر من الاعتماد على تقديرات إعلامية غير دقيقة، ويؤكد أن هناك تضخيمًا في بعض البيانات التي تنشرها جهات إعلامية كبرى، مثل بلومبرغ.
ويضيف أن المبالغة في تقدير أثر شاحنات الغاز المسال، ثم تكرار الخطأ ذاته مع الشاحنات الكهربائية، يُظهر خللًا منهجيًا في تقييم التغيرات الفعلية باستهلاك النفط، ويشير إلى أن هناك عوامل تقنية وجغرافية تحدّ من انتشار الشاحنات الكهربائية على نطاق واسع.
في الوقت نفسه، يرى الحجي أن التطرف البيئي في بعض الولايات، مثل كاليفورنيا، أدى إلى قرارات غير واقعية، ترتَّبت عليها أزمات في إمدادات الوقود، وعودة مفاجئة إلى دعم إنتاج النفط محليًا، بعد أن كانت السياسات تميل إلى إقصائه بالكامل.
جاء ذلك خلال حلقة جديدة من برنامج "أنسيات الطاقة"، قدّمها أنس الحجي عبر مساحات منصة التواصل الاجتماع "إكس" (تويتر سابقًا)، بعنوان: "النفط بين ترمب والهند.. وغاز النفط المسال بين أوبك ووكالة الطاقة الدولية".
الشاحنات الكهربائية والطلب على النفط
قال أنس الحجي، إن الحديث عن الشاحنات الكهربائية في الصين لا يتعلق بالسيارات العادية، بل بالشاحنات الكبيرة، وهي التي تستهلك كميات ضخمة من الديزل مقارنة بالسيارات الصغيرة التي تعمل بالبنزين، ومن ثم فإن تحويلها إلى الكهرباء سيكون له تأثير كبير في الطلب على النفط.
وأضاف أن خطورة هذا التحول تكمن في أن الشاحنات تُمثّل الشريحة الأهم في استهلاك الوقود، وإذا نجحت كهربة هذا القطاع، فإن ذلك قد يؤدي إلى تراجع ملحوظ في الطلب على النفط عالميًا، خاصة في الدول الصناعية مثل الصين.
وأشار أنس الحجي إلى أن بعض التقديرات الإعلامية، خاصة من وكالة بلومبرغ، تتجه إلى تضخيم تأثير هذا التحول، متّهمًا الوكالة بتضخيم الآثار الاقتصادية للعقوبات والحظر، بالإضافة إلى تبنّيها نهجًا مناوئًا لدول أوبك والسعودية خصوصًا، وهو ما ينعكس في تقاريرها الاقتصادية.
وأوضح أن "بلومبرغ" روّجت خلال العامين الماضيين لفكرة أن اعتماد الصين على شاحنات الغاز المسال سيؤدي إلى انخفاض كبير في الطلب على النفط، وأن الصين ستبلغ ذروة الاستهلاك قريبًا، بناءً على تقديرات مستقبلية خاطئة.
وبيّن أن المشكلة تفاقمت حين ظهرت الشاحنات الكهربائية، فبدلًا من أن تُستبدل بتقديرات الغاز المسال، أُضيفت فوقها، وكأن الصين تستعمل النوعين معًا، رغم توقُّف مشروعات الغاز المسال في هذا القطاع، وهو ما يخلق صورة غير دقيقة عن الواقع.
وأكد الحجي أن التأثير الفعلي لهذه الشاحنات سيكون محدودًا، لأن أغلبها سيعمل داخل المدن فقط، نظرًا لقيود الشحن والمسافات، ومن ثم فإن بعض الحسابات التي تتداولها وسائل الإعلام بشأن الطلب على النفط لا تعكس الحقائق الفنية واللوجستية الفعلية.
التطرف المناخي وأزمة نسور كاليفورنيا
قال أنس الحجي، إن قرارات كاليفورنيا بإلغاء إنتاج السيارات التي تعمل بالوقود بحلول 2035، ومعها قرارات مشابهة من الاتحاد الأوروبي كانت مبالغًا فيها، وقد واجهت انتقادات منذ البداية، مشيرًا إلى أنه حذّر من استحالة تطبيقها، وها هي الآن تُلغى أو يُعاد النظر فيها.
وأوضح أن موجة التطرف المناخي في كاليفورنيا وصلت إلى مستويات غير منطقية، مستشهدًا بقضية النسور الشهيرة، حيث قتلت عنفات الرياح عددًا كبيرًا من طائر الكندور الشهير، دون أن تواجه المزارع أيّ عقوبات، بينما تُغرَّم شركات النفط 10 آلاف دولار على نسر واحد.

وأشار أنس الحجي إلى أن الولاية بدلًا من أن تعالج أصل المشكلة، أنشأت صندوقًا لتمويل حاضنات لإنتاج النسور من أموال دافعي الضرائب، في مثال صارخ على اللاعقلانية في بعض السياسات البيئية، التي تستهدف شركات النفط في المقام الأول.
وأضاف أن هذه السياسات دفعت شركة شيفرون -التي تأسست أصلًا في كاليفورنيا وكانت من أعرق شركاتها- إلى نقل مقرّها إلى تكساس بعد 125 عامًا من النشاط، في إشارة إلى عمق الصراع بين الحكومة وشركات الوقود.
ولفت إلى أن الطلب على النفط لم يختفِ في كاليفورنيا كما توقّع المتحمسون للكهربة، بل على العكس، اضطرت الولاية مؤخرًا إلى استيراد البنزين ووقود الطائرات من الهند والصين، في سابقة تاريخية، ما يؤكد فشل السياسات البيئية المتطرفة.
وأكد أن الأزمة تفاقمت بسبب التوترات التجارية مع الهند والصين، إذ تُهدِّد أيّ عقوبات أو قيود جمركية بقطع إمدادات الوقود عن كاليفورنيا، ما دفع الحكومة المحلية إلى التراجع عن سياسات إغلاق المصافي، والتوجه نحو إعادة تنشيط إنتاج النفط داخل الولاية.
أزمة الشحن والاعتماد على الخليج
أكد أنس الحجي أن استيراد كاليفورنيا للوقود من آسيا يعكس حجم الأزمة التي خلّفتها السياسات البيئية المتطرفة، مشيرًا إلى أن غياب البنية التحتية لنقل النفط داخليًا من ولايات أميركية أخرى يزيد من تعقيد الموقف، ويجعل الشحن البحري خيارًا باهظ التكلفة.
وقال، إن مرور الشحنات عبر قناة بنما يمثّل تحديًا إضافيًا، نظرًا لطول المسافة وارتفاع الرسوم، ما يجعل استيراد الوقود من الخليج العربي، خاصة من السعودية، خيارًا ضروريًا، لكنه مكلف جدًا، وهو ما يعيد الخليج إلى قلب معادلة الطلب على النفط في أميركا.
وأضاف خبير اقتصادات الطاقة أن هذه التحولات تُبرز هشاشة إستراتيجيات التحول الطاقي التي تتجاهل الواقع اللوجستي والجغرافي، مؤكدًا أن تأمين إمدادات الطاقة يجب أن يكون أولوية تتقدم على الخطط السياسية أو البيئية، خاصة في الولايات الكبرى، مثل كاليفورنيا.
وبيّن أن أزمة كاليفورنيا قد تتكرر في ولايات ودول أخرى إذا استمرت موجة الكهربة دون خطط واقعية للبُنية التحتية، وهو ما يتطلب مراجعة شاملة لسياسات تحوّل الطاقة على مستوى العالم، خصوصًا في الدول الصناعية الكبرى.
وأشار إلى أن موجة كهربة الشاحنات، رغم تأثيرها المحتمل، ما زالت محدودة في نطاق المدن، ولا يمكن الاعتماد عليها لتغطية كل احتياجات النقل، ومن ثم فإن الحديث عن انخفاض جذري في الطلب على النفط لا يستند إلى معطيات واقعية.
واختتم الحجي بالتحذير من التضليل الإعلامي المتعمّد الذي يضخّم أوهام الذروة النفطية القريبة، مؤكدًا أن الطلب الحقيقي على النفط سيبقى قويًا لعقود، ما لم تتغير البنية التحتية والبدائل بشكل جذري ومتكامل.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
المصدر..