ورد إلى دار الإفتاء سؤال يقول صاحبه: ما حكم قراءة قصيدة "البردة"؟ حيث إن بعض الناس يدَّعي أنها بدعة، وأنها تتضمن أمورًا شركية تُخِلُّ بالعقيدة الإسلامية.
وأجاب على السائل الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية الأسبق عبر الموقع الرسمي لدار الإفتاء قائلا: مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم سُنَّةٌ نبوية شريفة ينبغي على المسلمين إحياؤها في هذا العصر، وهي مِن أعظم القربات التي يُتَوَسَّلُ بها إلى رب البَرِيّات، وقصيدةُ البردة الشريفة هي من أفضل ما مُدِح به رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم، ووصفها بالقصيدة الشركية أو بأن فيها شركًا أو كفرًا هو طعن على السواد الأعظم من علماء الأمة واتهام لهم بالشرك والكفر، ودعوة لهدم التراث الإسلامي وحضارته، وناهيك بذلك خروجًا عن سبيل المؤمنين ومحادَّةً لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم؛ وقد روي عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: «إِذَا لَعَنَ آخِرُ هَذِهِ الأُمَّةِ أَوَّلَهَا فَمَنْ كَتَمَ حَدِيثًا فَقَدْ كَتَمَ مَا أَنْزَلَ اللهُ» رواه ابن ماجه.
وهذه القصيدة الشريفة هي من أكثر ما يُثَبِّتُ حب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم في القلوب، واعتيادُكَ لقراءتها باب عظيم من أبواب فتح الله تعالى عليك؛ فلا تلتفت إلى مَن يَصُدُّكَ عن قراءتها، والله تعالى خَصيمُ مَن يتهم أولياءه وعباده الصالحين وعلماء الأمة المتقين سلفًا وخلفًا بالوقوع في الشرك والبدعة
بيان فضل محبة النبي عليه الصلاة والسلام
مَدْحُ الأُمَّةِ للنبي صلى الله عليه وآله وسلم دليلٌ على مَحَبَّتها له، وهذه المحبَّة تُعَدُّ أصلًا من أصول الإيمان؛ قال تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ وَاللهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾ [التوبة: 24]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَالِدِهِ وَوَلَدِهِ» رواه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وقال أيضًا: «لَا يُؤْمِنُ أَحَدُكُمْ حَتَّى أَكُونَ أَحَبَّ إِلَيْهِ مِنْ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ» رواه البخاري ومسلم من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
ومحبَّة النبي صلى الله عليه وآله وسلم مَظهَر محبة الله سبحانه، فمَن أحبَّ مَلِكًا أحب رسولَه، ولله المثل الأعلى، ورسولُ الله حبيبُ رب العالمين، وهو الذي جاء لنا بالخير كله، وتحمَّل المتاعب من أجل إسلامنا ودخولنا الجنة؛ كما ورد في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾ [التوبة: 128]، وقد وصفه ربنا في مواضع كثيرة من القرآن بصفات تدل على فضله، منها قوله تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ [القلم: 4].
الرد على من يزعم أن مديح النبي عليه السلام يُعد من الغلو والمبالغة الممنوعة شرعًا
عرَّف العلماء المديح النبوي بأنه: هو الشِّعْرُ الذي ينصَبُّ على مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم بتعداد صفاته الخِلْقِيَّة والخُلُقِيَّة، وإظهار الشوق لرؤيته، ولزيارة قبره والأماكن المقدسة التي ترتبط بحياته صلى الله عليه وآله وسلم، مع ذكر معجزاته المادية والمعنوية، ونظم سيرته، والإشادة بغزواته وصفاته الْمُثلى، والصلاة عليه تقديرًا وتعظيمًا، فهو شعرٌ صادقٌ بعيدٌ عن التزلُّف والتَّكَسُّب، ويُرجى به التقرب إلى الله عز وجل، ومهما وصفه الواصفون فلن يُوَفُّوه حقَّه صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الشيخ الباجوري رحمه الله في مقدمة "شرحه للبردة" (ص: 5- 6، ط. مكتبة الآداب-القاهرة): [إن كمالاتِه صلى الله عليه وآله وسلم لا تُحْصَى، وشمائله لا تُسْتَقصى، فالمادحون لجنابه العلي، والواصفون لكماله الجلي، مُقصِّرون عمَّا هنالك، قاصرون عن أداء ذلك، كيف وقد وصفه الله في كتبه بما يبهر العقول، ولا يُسْتَطاع إليه الوصول، فلو بالغ الأوَّلون والآخرون في إحصاء مناقبه، لعجزوا عن ضبط ما حباه مولاه من مواهبه] اهـ.
وقد أحسن مَن قال:
أَرى كلَّ مَدحٍ في النَبِيِّ مُقَصِّرا ... وَلَو صِيغَ فيه كُلُّ عِقدٍ مُجَوْهَرا
وَهل يَقدُرُ المُدَّاحُ قَدرَ محمَّـدٍ ... وَإِن بالَغ المُثـنِي عَلَيهِ وَأَكثَـرا
إِذا اللهُ أَثـنى بالذي هو أَهلُهُ ... على مَن يَراهُ لِلمَحـامِدِ مَظهَرا
وَخَصَّصهُ في رِفْعَةِ الذِّكْرِ مُثنِيًا ... عَلَيهِ فَما مِقدارُ ما تَمْدَحُ الوَرى
فما يُظَنُّ غُلُوًّا في حقِّهِ صلى الله عليه وآله وسلم هو على الحقيقة تقصير، ولا يبلغ البليغ إلا قليلًا من كثير.
ولم يبدأ مدحُه صلى الله عليه وآله وسلم بعد انتشار الإسلام وظهوره، بل إنه قد مُدِح أيضًا في الجاهلية، فقد مَدَحه عمه أبو طالب فقال:
وَأَبْيَضَ يُسْتَسْقَى الْغَمَامُ بِوَجْهِهِ ... ثِمَالُ الْيَتَامَى عِصْمَةٌ لِلأَرَامِلِ
يَلُوذُ بِهِ الْهُلَّاكُ مِنْ آلِ هَاشِمٍ ... فَهُمْ عِنْدَهُ فِي رَحْمَةٍ وَفَوَاضِلِ
ومَدَحَه أيضًا بعضُ شعراء الكفار، مثل الأعشى؛ حيث يقول في مدحه صلى الله عليه وآله وسلم:
نَبِيٌّ يَرى ما لا تَرَونَ وَذِكرُهُ ... أَغارَ لَعَمري في البِلادِ وَأَنجَدا
لَهُ صَدَقـاتٌ ما تَغِبُّ وَنائِلٌ ... وَلَيسَ عَطاءُ اليَومِ مانِعَهُ غَدا
والمديح النبوي مشروع بعموم أدلة القرآن الكريم؛ كقوله تعالى: ﴿لِتُؤْمِنُوا بِاللهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ [الفتح: 8-9]، والتعزير هو التعظيم.
ومدحه صلى الله عليه وآله وسلم من مظاهر تعظيمه وحبه.
وبمشروعية مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جاءت السنة النبوية نَصًّا وإقرارًا:
فروى الإمام أحمد في "مسنده" عَنِ الأسْوَدِ بْنِ سَرِيعٍ رضي الله عنه قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِنِّي قَدْ مَدَحْتُ اللهَ بِمِدْحَةٍ وَمَدَحْتُكَ بِأُخْرَى، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «هَاتِ وَابْدَأْ بِمِدْحَةِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ».
وروى الإمام الطبراني في "المعجم الكبير" عن خُرَيْم بن أَوسِ بن حارِثةَ بنِ لامٍ قال: كُنَّا عند النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فقال له العباس بن عبد المطلب رحمه الله: يا رسول الله، إني أريد أن أمدحك، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «هَاتِ، لا يَفْضُضِ اللهُ فَاكَ» فأنشأ العباس رضي الله عنه يقول شعرًا، منه قوله:
وَأَنتَ لَمَّا وُلِدتَ أَشرَقَتِ الْـ ... أَرْضُ وَضـاءَت بِنورِكَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذلك الضِّيَاءِ وَفِي الـ ... نُّـورِ وَسُبْلَ الرَّشَـادِ نَخْتَرِقُ
فقد أمر النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم بتلاوة المديح عليه، ودعا لعمه رضي الله عنه؛ فهذا دليل على مشروعية مدحه صلى الله عليه وآله وسلم.
وممَّن مدح النبي صلى الله عليه وآله وسلم من الصحابة: حسّانُ بن ثابت، وكعبُ بن مالك، وكعبُ بن زُهَيْر، وعبدُ الله بن رَوَاحَةَ رضي الله عنهم، وقد أقرَّهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم، بل وأحب ذلك ودعا لِمَادحه، وكسا كعبَ بنَ زهيرِ بنِ أبي سُلمى بُرْدَتَه الشريفةَ مكافأةً له على مدحه، ولم ينهه عن ذلك ولا عن إنشاده في المسجد.
فالمدائح النبوية سنة نبوية كريمة درج عليها المسلمون سلفًا وخلفًا، وليس صحيحًا ما يُروَّج له مِن أن المديح النبوي فنٌّ مستحدثٌ لم يظهر إلا في القرن السابع الهجري مع الإمام البوصيري رحمه الله تعالى، والقول بأنه بدعة قول مبتَدَع لم يعرفه المسلمون إلا في هذا العصر، بل المديح النبوي سنة هَجَرَها كثيرٌ من أهل هذا الزمان، والساعي في إحيائها داخل في قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي، وَمَنْ أَحَبَّنِي كَانَ مَعِي فِي الْجَنَّةِ»، وفي نسخة: «مَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحْيَانِي، وَمَنْ أَحْيَانِي كانَ مَعِي في الجَنَّةِ» أخرجه الترمذي وحسَّنه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
بيان معنى الإطراء المنهي عنه في حديث النبي عليه السلام «لا تُطْرُونِي»
قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم فيما رواه الإمام البخاري في "صحيحه" وغيره: «لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ؛ فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُهُ، فَقُولُوا: عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ»، فالإطراء هو المدح بالباطل.
قال الإمام الزبيدي في "تاج العروس" في مادة (طري): [وقال الأزهري: أطراه مَدَحَه بما ليس فيه، وقال الهروي وابن الأثير: الإطراء مجاوزةُ الحد في المدح والكذب فيه، وبه فُسِّرَ الحديث: «لا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى المَسيحَ ابْنَ مَرْيَمَ»؛ لأنهم مدحوه بما ليس فيه فقالوا: ثالث ثلاثة، وإنه ابن الله، وشبه ذلك من شركهم وكفرهم] اهـ بتصرف.
وعلى ذلك: فقوله: «كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى ابْنَ مَرْيَمَ» أي: في دعواهم فيه الإلهية وغير ذلك. فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن المدح بالباطل فقط، بأن يُمْدح بما هو من خصائص الله؛ كأن يُرْفع إلى مقام الألوهية، أو يُعطَى بعضَ صفات الله، ولم ينههم عن المدح مطلقًا؛ كما قالت امرأةٌ في زمنه: وَفِينَا نَبِيٌّ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ، فَقَالَ لها النَّبِيُّ صلى الله عليه وآله وسلم: «دَعِي هَذِهِ، وَقُولِي بالذي كُنْتِ تَقُولِينَ» رواه البخاري وغيره، فنهاها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن هذا القول؛ لأن علم الغيب من خصائص الله تعالى وصفاته، فلا يعلم أحدٌ شيئًا من الغيب استقلالًا، ولا يعلم منه إلا ما علَّمه الله، كما قال سبحانه: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا﴾ [الجن: 26-27]. ولم ينهها النبي صلى الله عليه وآله وسلم عن ذات المدح، بل أمرها أن تقول ما يشتمل على المدح الجائز.
قال العلامة ابن بَطَّال المالكي في "شرح البخاري" (7/ 263، ط. مكتبة الرشد): [وفيه جواز مدح الرجل في وجهه بما فيه، وإنما المكروه مِن ذلك مدحُه بِما ليس فيه] اهـ.
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (9/ 203، ط. دار المعرفة): [قوله: فقال: «دَعِي هَذِهِ» أي: اتركي ما يتعلق بمدحي الذي فيه الإطراء المنهي عنه، زاد في رواية حماد بن سلمة: «لَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إلَّا الله» فأشار إلى علة المنع. قوله: «وَقُولِي بالذي كُنْتِ تَقُولِينَ» فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية ممَّا ليس فيه مبالغة تُفضي إلى الغلو] اهـ.
أسباب انتشار قصيدة "البردة" للإمام البوصيري في المديح النبوي وبيان فضلها
قصيدة "الكواكب الدرية في مدح خير البرية" للإمام البوصيري رضي الله عنه والمعروفة باسم البردة تُعَدُّ من عيون الشعر العربي، ومن أروع قصائد المدائح النبوية، ودرة ديوان شعر المديح في الإسلام الذي جادت به قرائح الشعراء على مرِّ العصور.
وقد ذهب معظم الباحثين إلى أنها أفضل قصيدة في المديح النبوي إذا استثنينا "لامِيَّةَ كعب بن زهير": "البردة" الأم، حتى قيل: إنها أشهر قصيدة في الشعر العربي بين العامة والخاصة.
وقد ذكر الإمامُ البوصيريُّ في هذه القصيدة سيرةَ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من مولده إلى وفاته، وتكلَّم على معجزاته وخصائصه.
وذكر المؤرخ الصفدي في "الوافي بالوفيات" (3/ 93-94، ط. دار إحياء التراث): [أنه يروي "البردة" ضمن شعر البوصيري عن الشيخ أبي حيان النحوي عنه، وذكر عن الإمام البوصيري أنه قال: كنتُ قد نظمتُ قصائدَ في مدح رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم اتفق أن أصابني فالج أبطل نصفي، ففكرت في عمل قصيدتي هذه البردة، فعملتُها واستشفعت بها إلى الله تعالى في أن يعافيني، وكررت إنشادها وبكيت ودعوت وتوسلت، ونمت فرأيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم فمسح على وجهي بيده المباركة، وألقَى علي بردة فانتبهت، ووجدت فِيَّ نهضةً، فخرجتُ مِن بيتي ولم أكن أعلَمْتُ بذلك أحدًا، فلَقِيَنِي بعضُ الفقراء فقال: أريد أن تُعطِيَنِي القصيدة التي مدحت بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقلت: أيُّها؟ فقال: التي أنشأتَها في مرضك، وذكر أولها، وقال: والله لقد سمعنا البارحة وهي تُنشَدُ بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأيتُه صلى الله عليه وآله وسلم يتمايل وأعجَبَتْه وألقى على من أنشدها بُردةً، فأعطيتُه إياها، وذكر الفقير ذلك فشاع المنام] اهـ.
قال شيخ الشافعية في زمنه العلامة ابن حجر الهيتمي رحمه الله تعالى في: "شرح الهمزية" (1/ 69، ط. دار المنهاج): [وإنَّ أبلغ ما مدح به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم من النظم الرائق البديع، وأحسن ما كشف عن شمائله من الوزن الفائق المنيع، وأجمع ما حوته قصيدة من مآثره وخصائصه ومعجزاته، وأفصح ما أشارت إليه منظومة من بدائع كمالاته، ما صاغه صوغ التبر الأحمر، ونظمه نظم الدر والجوهر، الشيخ الإمام العارف الهمام الكامل المفنن المحقق، والبليغ الأديب المدقق، إمام الشعراء، وأشهر العلماء، وبليغ الفصحاء، وأفصح البلغاء الحكماء، الشيخ شرف الدين أبو عبد الله محمد بن سعيد،.. ثم اشتهر بالبوصيري،.. وكان من عجائب الدهر في النظم والنثر، ولو لم تكن إلا قصيدته المشهورة بـ"البردة".. التي ازدادت شهرتُها إلى أن صار الناس يتدارسونها في البيوت والمساجد، لكفاه شرفًا وتقدمًا] اهـ.
وقد اهتم المسلمون بالبردة سلفًا وخلفًا منذ أن نَظَمَها صاحبُها رضي الله عنه، ولم يحظ نص شعري بمثل ما حظيت به من الاهتمام؛ فتنافس الخطاطون في كتابتها في أمشقهم وعلى جدران المساجد؛ حتى كُتِبَت على جدران المسجد النبوي الشريف، واعتاد الناس قراءتها في المحافل والمواسم الشريفة؛ كمولد النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتبارى المنشدون في الابتهال بها، ورأوا من بركاتها أمورًا عظيمة في دينهم ودنياهم، وسارت بها الركبان، وعلمَت الناس حُبَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأنه ركن الإيمان وأساس الإسلام.
قال العلامة حاجي خليفة في "كشف الظنون"(2/ 1331، ط. مكتبة المثنى): [وهذه القصيدة الزهراء والمديحة الغرَّاء بركاتها كثيرة ولا يزال الناس يتبركون بها في أقطار الأرض] اهـ.
وهذه القصيدة المباركة قد نهج على منوالها الناس عبر القرون، وعارضها الشعراء، وشطَّروها، وخمسوها، وسبَّعوها، حتى ذكر الحافظ السخاوي في "الضوء اللامع" (10/ 337، ط. دار الجيل-بيروت) في ترجمة جمال الدين الكرماني الشافعي أنه جمع من تخاميس البردة ما ينيف على ستين، ومع ذلك كله فلم تأت قصيدة في مثل جمالها وقبولها التام في الأمة الإسلامية