لحظة الترقب هذه ليست حيادية، إنها لحظة معلقة على مهلة أمريكية محددة، تبدو وكأنها تشكل الفاصل بين دولتين: لبنان القديم المتروك لتوازنات داخلية وحسابات إقليمية، ولبنان الجديد الذي يفترض أن يتحول إلى دولة موحدة القرار، يحتكر فيها الجيش اللبناني وحده، السلاح.
لكن من يقرِّر شكل هذا التحول؟ وهل لا تزال بيروت تكتب قدرها، أم أن مهلة توماس براك باتت هي النص الوحيد المعترف به على طاولة القرار الدولي؟.
هل اقتنع الأمريكيون فعلاً؟
في أول تعليق على الرد اللبناني، ظهرت لهجة أمريكية «راضية جداً». مصطلحات مثل: «رد رائع» و«واقعي» و«يفتح الباب للمضي قدماً» انتشرت في الصحافة الأمريكية. لكن هذه اللغة التي بدت ناعمة ظاهرياً، تخفي ما هو أبعد: واشنطن لم تطلب من بيروت رأياً بل التزاماً. لم تكن تنتظر تأملاً في أفكارها بل توقيعاً على خريطة زمنية واضحة تنتهي إلى مشهد واحد: لبنان بلا سلاح خارج الشرعية.
الرد اللبناني بحسب مصادر دبلوماسية أمريكية، لم يرفض ولم يوافق، بل «لاقى الطرح الأمريكي بنقاط تبقي هامشاً للمناورة». هذه المناورة بالنسبة للأمريكيين ليست مشكلة في ذاتها إنما في توقيتها. لأن مهلة براك التي أعطيت من دون أن تعلن صراحة، تنتهي فعلياً خلال أشهر بمرور سنة على انتخاب الرئيس دونالد ترمب، إذ سيتحول الاهتمام الأمريكي بالكامل إلى أولويات داخلية.
هل ما زال القرار في بيروت؟
ردّت بيروت، لكن بيروت ليست طرفاً واحداً؛ فرئاسات الجمهورية والحكومة ومجلس النواب وحتى عدد من القوى السياسية، شاركوا في صياغة الورقة. لكن الثقل الحقيقي لمعادلة الرد يبقى في يد «حزب الله» الذي لم يعلن موقفاً مباشراً بعد الرد الرسمي، لكنه سرّب عبر بيئته رفضاً لأي مهلة زمنية تنتهي بتسليم السلاح.
في المقابل، أفادت أوساط قريبة من دوائر القرار الرسمي، بأن الرد اللبناني لم يتضمن التزامات صريحة بل وضع شروطاً مقابلة لأي خطوة تتعلق بالسلاح: أبرزها انسحاب إسرائيل الكامل من الجنوب، وتحييد القرار 1701 عن التفسير الإسرائيلي. وهذا يعني أن بيروت كتبت، نعم. لكنها كتبت تحت سقف مزدوج: سقف الدولة وسقف حزب الله. وهنا يعود السؤال: هل تقبل واشنطن بورقة تكتفي بالمواقف الرمادية؟ أم أنها تتعامل معها كأداة ضغط لا أكثر بانتظار جواب عملي؟. الرد الأمريكي..
بأي صيغة سيكون؟
لن يعود براك إلى بيروت بورقة جوابية تقليدية، فقد يحمل معه وفقاً لمصادر مواكبة ما يشبه تقرير مصير: إما التقدم خطوة نحو تنفيذ «خارطة نزع السلاح» أو الدخول في مرحلة ضغط متسارع، يبدأ بتجميد المساعدات ويصل ربما إلى تفعيل العقوبات.
وحسب مصادر «عكاظ»، فإن الرد الأمريكي لن يكون فقط على الورق. سيكون مزدوجاً: سياسي- أمني من جهة، واقتصادي- دولي من جهة أخرى؛ أي أن واشنطن ستنتظر إشارات ميدانية فعلية في الجنوب وفي داخل الدولة قبل أن تطلق أي رزمة دعم جديدة للبنان. وأكثر من ذلك، فقد ألمح الموفد الأمريكي في زيارته الأخيرة إلى أن المنطقة تتحرك «بسرعة ماخ»، ومن لا يلتحق بالقطار الآن قد لا يسمح له بالصعود لاحقاً.
ماذا بعد عودة براك؟
الزيارة القادمة لبراك قد تكون الأكثر حسماً؛ أي أنها ليست زيارة استكشاف بل اختبار نهائي: هل تنفذ بيروت شيئاً فعلياً مما جاء في ورقتها؟ وهل يتحرك حزب الله لإعادة تموضعه، أم يختار التصعيد السياسي وربما العسكري في الجنوب أو في الداخل؟ كذلك، لا يمكن فصل الرد الأمريكي عن المزاج الإسرائيلي الذي لا يبدو متحمساً لأي تسويات تبقي على هيبة الحزب.
في المقابل، لدى واشنطن أسباب كافية لتفادي الانفجار. فهي تدرك أن انهيار لبنان سيصب في مصلحة خصومها الإقليميين. لذلك، قد يعاد طرح معادلة «الحل مقابل الضمانات»؛ أي خطوات تدريجية من الحزب يقابلها انسحاب إسرائيلي مدروس وتمويل دولي مشروط بإجراءات إصلاحية.
من يكتب
مصير لبنان؟
براك لا يملك أن يملي على لبنان مستقبله، لكنه يحمل ورقة توازي في مفعولها ما كانت تفعله العواصم الكبرى في لحظات الانتقال. لحظة الرد الأمريكي ستكون لحظة تحديد المسار، إما الاستفادة من فرصة تحول مدعومة دولياً، أو الوقوع مجدداً في دوامة انتظار قاتلة، إذ لا مهلة تمدد ولا دعم يقدم، ولا موقف يُحسم.
في النهاية، المصير سيُكتب بين بيروت وواشنطن، لكن توقيت كتابته وسرعة إنجازه باتَا خارج يد بيروت. الزمن الآن يملكه براك والخريطة تنتظر من يوقعها قبل أن تطوى.
أخبار ذات صلة
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"