الطفل الشاعر دائماً ما تردد والدتُه على مسامعه أنه الطفل الأول من عائلته الذي ولد في المستشفى، بينما أخوته الثلاثة الذين سبقوه في الحياة قد ولدوا في البيت، وكانت تسمي يوم مولده يوم العيد الكبير الذي يصادف الحادي عشر من ذي الحجة لعام 1380هـ.
وكأنه وُضع في خانة التميّز منذ الصغر، وأصبحت هذه الخانة تكبر معه شيئاً فشيئاً كلما أخذته الحياةُ في دروب الشعر. ورث عن أبيه مثلما يرثُ معظمُ الأبناء عن آبائهم الأحسائيين حُبّ النخلة، تعلّم منه كيف يحضنها مثلما تحضن الأمُّ ابنها!.. كيف يُصغي بحواسّه المتوثبة إلى جذورها في التربة!. كانت حكاياتُ والده وقصصهِ عنها تشبه حكايات ألف ليلة وليلة، إذْ يتذكر أن المسافة الممتدة من بيتهم الموجود في الجهة الغربية من حي الكوت إلى نخلهم «المخيبري» الواقع في الطريق العمومي المفضي إلى قرية المنصورة، وهو ممسك بيد والده جيئةً وذهاباً هي حياة النخلة التي انزرعتْ في روحه وقلبه حتى قال عنه الإعلامي عبدالله المغلوث في حوار أجراه معه «من ينظر إلى ملامح الشاعر أحمد الملا فسيجزم بأنه خرج من رحم نخلة. عيناه البنيتان تمرتان وفمه نواة وأطرافه أغصان يانعة».
يا له من وصف ينبّهنا إلى قصيدة كتبها الشاعر عام 2007 بعنوان «الأحساء أغنيتي ونخيلها جفاه الفلاحون» يستعيد فيها أزمنة الطفولة والشباب ويلتقط الحنين الذي كانت تتدفق مياهه من عيونها الفوارة، ويسترجع تلك الحياة التي كانت تنضج سريعاً على أعذاق النخيل وغصونها، ويتذكر الطقوس وتضاريس الأمكنة «.. أزمان عريضة والنخلة في هذه الجزيرة هي الأم والأب والملاذ، البيت والمعاش، الظل والسقف.. قفّة الخبز ولهب الرغيف، صندوق الجدة ومكحلة العروس، هديّة البواكير وذهب السلال، عصا الرعاة وحطبة الفأس».
وحينما كان الفتى الشاعر يكبر بين حارات الهفوف ويدرس في مدارسها النظامية «مدرسة الفتح الابتدائية» كانت حواسّه تتفتح على نداءات الشعر، وأنَّ لها أنْ لا تتفتح، فقد وجد نفسه محاطاً بعالم من الكتب سواء كان عند والده في بيتهم، أو عند عمه الشيخ عبدالله الملا «الذي أسس أول مكتبة تجارية في الأحساء» مما حفزه كثيراً على مغامرة القراءة. لكنْ ثمة حافز آخر، قربه للشعر أكثر، دائماً ما كان يذكره وهو انبهاره ودهشته أمام شخصيات عايشها في حارته كانوا يطلقون عليها صفة الجنون؛ لأن سلوكها فقط لا يتوافق والذوق العام. وليست قصيدة «عويمر.. الحريق يراد له صاحب» الواردة في ديوانه (يوشك أن يحدث يليه مرآة النائم) سوى ملمح عابر على مفاعيل هذا الانبهار.
إن هذه الشرارة من الدهشة نمت في داخله مثلما تنمو نبة صغيرة في حقل مهيأ للزرع، وعلمته لاحقاً أن الشعر لا يمكن الإمساك به إلا وهو كامن أو مندس خلف الظواهر، اسمعه كيف يقول: «بالنسبة لي مثلاً عندما أستمع إلى أغاني فريد الأطرش في ذروة فصل الصيف، أشعر فجأة بقشعريرة ً، برجفة ضاربة من البرد» وكأنه وعى مبكراً أن التمرد على نمطية الظواهر يقوده إلى حقيقة الشعر، وهذه الحقيقة بالنسبة له ليست سوى لعبة تشبه الألعاب التي مارسها طيلة حياته منذ الصغر، حيث كلما أتقن لعبة هرب منها إلى غيرها، وعندما أدركته لعبة الشعر خاف أن يتقنه؛ فيهرب منه. يقول في قصيدة «لعبة الشعر» من ديوان (إياك أن يموت قبلك) ص122 هجرتُ كل شيء ولحقني الشعر يلهث هربتُ منه.. وأدركتني عضّته هرما أهملته خوفا وريبة من أمري..
لهذا أكتبه، وسريعا أرميه من يدي بعلاّت لا أتداركها نبت الشوكُ في أصابعي خشيتي أن أجيد ما أفعل ويهجرني إلى لعبة أخرى.
لذلك خلال هذا الوعي المبكر الذي انفتحتْ أبوابه على حياته أخذ يدفع خطواته في كل اتجاه، وكأنه يبحث عن المعنى الذي يعطي حياته القيمةَ الكبرى، وكانت المحطة الأولى في هذا البحث بدأت من دراسته الجامعية في الرياض حينما كانت تُسمى جامعة الملك سعود جامعة الرياض، حيث درس فيها علم الاجتماع وتخرج منها عام 1983، وفيها بدأ يتلمس طريقه للشعر حينما كتب محاولاته الأولى في الشعر التقليدي بتشجيع من أصدقاء الدراسة. لكنه وهو المأخوذ بصفة التمرد والبحث الدائم عن الفرادة ترك العمل في جامعة الملك فيصل بين الأحساء والدمام عام 1994م بعدما قضى فيها أكثر من عشر سنوات. وفي هذا العقد من الزمن بين تخرجه وتركه للعمل بدأت تحولاته الشعرية تظهر حين بدأ يكتب قصيدة النثر، وذلك بالتزامن مع دخوله عالم الصحافة متعاوناً مع جريدة اليوم في الشأن الثقافي الأدبي، ثم رئيساً لتحرير جريدة الرياضي.
لم يكن إصداره لمجموعته الشعرية الأولى (ظل يتقصف) عن المؤسسة العربية للدراسات عام 1995 سوى الإعلان عن بروز شاعر سيحتل مكان الصدارة في ساحتنا الأدبية، وستكون مياهُ بئره الشعري تتدفق بلا توقف أو انقطاع على مدى العقود التالية من السنين. وكأن سرَّ تدفقه نلمحه في الحيوية والنشاط والإقبال بحب وأمل على الحياة باعتبار ما تسلكه حياتهُ في طرقها الوعرة؛ لأجل أن يستمر هذا التدفق دون انقطاع.
لذلك جاءت إصداراته لمجموعاته الشعرية بعد الأولى كالتالي: (خفيف ومائل كنسيان) صدر عن دار الجديد - بيروت 1997م (سهم يهمس باسمي) صدر عن دار الكوكب ورياض الريس – 2005 (تمارين الوحش) صدر عن دار الغاوون 2010 (كتبتنا البنات) صدر عن نادي الرياض الأدبيّ والمركز الثقافي العربي 2013 (علامة فارقة) صدر عن دار مسعى 2014 (الهواء طويل وقصيرة هي الأرض) صدر عن دار مدارك 2014 (ما أجمل أخطائي) صدر عن دار مسارات 2016 (إياك أن يموت قبلك) صدر عن دار منشورات المتوسط 2018 (يوشك أن يحدث يليه مرآة النائم) صدر عن دار مسكيلياني 2020 (يا له من يوم هائل) صدر عن مجموعة كلمات 2024 وقد لا يجانبنا الصواب حينما نؤكد أن هذا الملمح يرفده وجه آخر ارتبط بحياة الشاعر، ألا وهو الشغف بالعمل الثقافي والفتوحات التي ترسخت على يديه، فقد أسس وأدار مهرجان أفلام السعودية منذ عام 2008، ولا يزال مستمراً للآن. أيضا ومن خلال توليه إدارة فرع جمعية الثقافة والفنون بالدمام أنشأ بيت الموسيقى ومهرجان بيت الشعر الذي افتتحت دورته الأولى 28 مارس 2015 إن هذا الشغف بالسينما والفن التشكيلي أيضا سنراه يضرب أطناب أعمدته في تجربته الشعرية مما سنقف عليه فيما يلي من كلام.
ولكن بلا شك مثل هذه الشخصية المبدعة والمؤثرة في مشهدنا الإبداعي والأدبي لن تخلو سيرتها من الجوائز والتكريمات، وليست جائزة الشاعر محمد الثبيتي للإبداع التي حصل عليها شاعرنا في دورتها الثانية عام 2015 سوى الدليل على هذا التميز والعطاء.
قصيدة الملا هي تؤم الحياة منذ إصداره الأول (ظل يتقصف) وقصيدته لا تتوقف عن الجريان، فما أن تخطو خطواتها الأولى إلا وتتجاوزها إلى ما بعدها بخفة ورغبة جامحة إلى فضاء أكثر رحابة وأكثر انفتاحاً. فهو يكتب القصيدة كمن يخوض سباقاً لا توجد في مضماره سوى أيامه، محاولاً اللحاق بها كي يسترد منها حياته. لا شيء يمنعه من اللحاق، لا شيء يصده، آمنَ بالقصيدة كمأوى ضد الطيور الجارحة في الحياة. لكنه لم يغلق نوافذه ولا أبوابه، العابرون كثر على عتباته، وكأنه المصب الذي تلتقي عنده الأنهار جميعاً. إذ نصغي إليه حين يقول في قصيدة «أمحو الموت» من ديوان «تمارين الوحش» ص 156 مخاطباً إحداهن «.. لهذا عليك أن تتجنبي الأسود من الثياب، يكفيني ما أنا فيه من غيابي، ولا تغلقي نافذة فتحناها معاً، أو تفتحي باباً مررنا به، لا تضعيني في الحزن، ولا تنسي عشقي للحياة».
لكن مكابدات الحياة باعتبارها مرجعية للكتابة عند أحمد الملا لها ضريبتها المؤلمة على حياته نفسها، ولها في نفس الوقت الحافز الذي يمدّه بالحس الشعري للكتابة. يقول في قصيدة «أدفع حياتي نحو الماء» من ديوان (يوشك أن يحدث) ص45: أنهكتني حياتي حين كتبتها، ظلت ترتمي أمامي جانحةً على شاطئ ضحل، لم تسعفني حيلةٌ تعيدها إلى حيث تغوص الحيتان وتختفي مرحة في المحيطات، يوجعني مرآها تتمرغ وتنفخ في الوحل وكلما همّت بالعودة مع الموج حفرت حتفها بكلمات أغصّ بها وتلفظني.
أخبار ذات صلة
إخلاء مسؤولية إن موقع بالبلدي يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.
"جميع الحقوق محفوظة لأصحابها"