بعد عقود من الصراع، تقف إسرائيل الآن عند مفترق طرق تاريخي، رغم أن خبراء عسكريين وسياسيين يزعمون أن الدولة اليهودية حققت مستوى من الأمن لم يسبق له مثيل منذ تأسيسها عام ١٩٤٨، استنادًا إلى أن حدودها المباشرة آمنة نسبيًا فى أعقاب العمليات العسكرية الحاسمة ضد خصومها الإقليميين، بمن فيهم حماس في غزة، وحزب الله في لبنان، والحوثيون في اليمن، وحتى إيران. وصلت هذه المزاعم إلى حد أن يعقوب أميدرور، الجنرال الإسرائيلي المتقاعد والمساعد الأول السابق لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، يدعى أن العديد من مناطق إسرائيل "ستكون أكثر أمانًا من مانهاتن"!.
لكن هذا الأمن الظاهرى يأتي بثمن دبلوماسي وإنساني باهظ. فقد أثارت حرب إسرائيل في غزة وهجماتها على إيران ولبنان انتقادات دولية غير مسبوقة، مما أدى إلى تصدع علاقاتها مع حلفائها التقليديين وتفاقم عزلتها العالمية.
كان رد إسرائيل على هجوم حماس في ٧ أكتوبر ٢٠٢٣ سريعًا وقويًا، لكن حجم الدمار في غزة كان كارثيًا.. قُتل عشرات الآلاف، ونزح أكثر من مليون شخص، ودُمر معظم القطاع. وأجّجت الأزمة الإنسانية غضبًا واسع النطاق واتهامات بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية.
لقد حطمت هذه التطورات الإجماع الحزبي في الولايات المتحدة الذي كان يدعم إسرائيل بلا قيد أو شرط. واليوم، تُناقش هذه القضية بشدة في الكونجرس، وفي الجامعات، وعلى وسائل التواصل الاجتماعي. تُظهر استطلاعات الرأي العام تراجعًا حادًا في مكانة إسرائيل بين الديمقراطيات، حيث أصبح معظم الناس في الدول الغربية الكبرى يحملون آراءً سلبية تجاهها.
تغير الرأي العام
أثار الصراع حركات احتجاج عالمية، وزاد من دعوات مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض عقوبات عليها. على سبيل المثال، شهدت حملة التضامن مع فلسطين في المملكة المتحدة تضخمًا في عدد أعضائها من ٦٥ ألفًا إلى أكثر من ٣٠٠ ألف منذ بدء الحرب، وهى نسبة تزيد على ٤٠٠٪. يقول بن جمال، مدير المجموعة: "يرى الناس حجم المذبحة. إنهم يسمعون وزراء إسرائيل يقولون: سندمر كل شيء. نحن نتعامل مع حيوانات بشرية. وهم يرون نتيجة ذلك".
تبع ذلك ردود فعل من الشركات: أعلنت سلسلة متاجر البقالة التعاونية البريطانية أنها ستتوقف عن استيراد المنتجات من إسرائيل، لتضعها إلى جانب دول مثل أفغانستان وإيران على قائمتها السوداء.
أظهر استطلاع حديث أجراه مركز بيو للأبحاث في ٢٤ دولة تزايدًا حادًا في الآراء السلبية تجاه إسرائيل، حيث أبدى آراءً سلبية أكثر من ٧٥٪ من المشاركين في عدة دول، من بينها أستراليا، واليونان، وإندونيسيا، واليابان، وهولندا، وإسبانيا، والسويد، وتركيا.
انتكاسات إقليمية
بعد أن كانت إسرائيل تتمتع بعلاقات أفضل مع عدد من دول الخليج، تضاءلت آفاقها الدبلوماسية. ويقول المحللون الآن إن التوصل إلى اتفاق سلام شامل أصبح أبعد منالًا من أي وقت مضى، حيث تربط دول الخليج أي اتفاق بحل عادل للفلسطينيين. في غضون ذلك، تصاعد العنف في الضفة الغربية المحتلة، حيث شجعت سياسة الحكومة الإسرائيلية وحملات القمع العسكرية المستوطنين الإسرائيليين على الجرأة، ووصلت حدتها إلى مستوى غير مسبوق.
ومع ذلك، فإن عزلة إسرائيل الدبلوماسية ليست مطلقة. فالمفاوضات مع سوريا تُشير إلى انفتاح إقليمي محتمل، ويشير المحللون إلى أن التطبيع مع المملكة العربية السعودية قد يُستأنف بمجرد انحسار الأعمال العدائية في غزة.
داخل إسرائيل، تشعر إسرائيل بتكاليف الحرب بشكل حاد. لقد خلّف إعطاء الأولوية للانتصارات العسكرية على حساب عودة الرهائن دمارًا كبيرًا في عائلات كثيرة. قُتل مئات الجنود الإسرائيليين، ويُعتقد أن حوالي ٢٠ رهينة لا يزالون محتجزين في أنفاق غزة بعد قرابة عامين.
تُلقي نيرة شرابي، أرملة الرهينة يوسي شرابي، باللوم على كلٍّ من حماس والحكومة الإسرائيلية في مقتل زوجها. وتقول عن الأسرى المتبقين: "إنهم يدفعون الثمن"، مُعربةً عن إحباطها العميق من أولويات الحكومة.
يُقرّ ليور سوهارين، وهو طالب شاب وجندي احتياط عسكري حديث، بضعف جماعات مثل حزب الله وحماس، لكنه يصف فقدانًا عميقًا للثقة الأمنية بين الإسرائيليين. يقول: "بعد ٧ أكتوبر، اهتزّ شعورنا بالثقة بالنفس، وشعورنا بالأمن في إسرائيل، بشدة، ومن الصعب جدًا استعادته".
وتكشف استطلاعات الرأي العام أنه في حين يؤيد العديد من الإسرائيليين العمليات العسكرية، فإن أغلبية كبيرة تريد إنهاء الحرب إذا كان ذلك يعني إعادة الرهائن إلى ديارهم.
تداعيات عالمية
على الصعيد الدولي، أثارت أفعال إسرائيل موجات من الاحتجاجات، وفي بعض الأحيان، أعمال عنف. وتصاعدت المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين في جميع أنحاء العالم، وتزايدت الهجمات المعادية للسامية والإسلاموفوبيا.. في الولايات المتحدة، انخفض الدعم لإسرائيل إلى أدنى مستوى له منذ ربع قرن، بينما يستمر التعاطف مع الفلسطينيين في التزايد.
أصبحت الجامعات بؤر توتر، حيث تصدرت مخيمات الطلاب والاشتباكات مع الشرطة عناوين الصحف. استغل سياسيون، بمن فيهم الرئيس السابق ترامب، هذه الانقسامات، مما أثار نقاشات حادة حول معاداة السامية وحرية التعبير.
ردّ المجتمع الدولي بتوبيخات لاذعة. اعترفت دول مثل إسبانيا والنرويج وأيرلندا رسميًا بدولة فلسطينية، وقد تحذو دول أخرى حذوها. انتقد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إسرائيل علنًا، وهي خطوة أدانتها حكومة نتنياهو.
ومع ذلك، بالنسبة للعديد من الإسرائيليين وقادتهم، تظل القدرة على الدفاع عن البلاد ذات أهمية قصوى. وكما يقول أميدرور بكل بجاحة: "إن قدرة إسرائيل على الدفاع عن نفسها والتخلص من أعدائها أهم بكثير من نظرة المجتمع الدولي إليها".
لقد حققت الحملات العسكرية الإسرائيلية نجاحًا سعى إليه مواطنوها منذ زمن طويل، ولكن على حساب تعميق العزلة الدبلوماسية، والمأساة الإنسانية، وتنامي الانقسامات المحلية والعالمية. وكما يُقرّ كل من المؤيدين والمنتقدين، فإن نتائج هذه السياسات لن تُشكّل أمن إسرائيل فحسب، بل ستُشكّل أيضًا دورها وسمعتها على الساحة العالمية لسنوات قادمة.
*نيويورك تايمز
