تعيش أقليات عربية ودرزية في قلب الدولة العبرية، تمثّل جزءًا لا يتجزأ من النسيج السكاني لإسرائيل، لكنها تجد نفسها باستمرار على هامش المشهد السياسي والاجتماعي.
هذه الأقليات تواجه تناقضات معقّدة بين انتمائها القومي والديني، وبين موقعها القانوني كمواطنين فى دولة تُعرف نفسها بأنها «دولة يهودية». يعيش العرب والدروز في إسرائيل في حالة دائمة من الشدّ والجذب، تتداخل فيها الاعتبارات الوطنية مع الإكراهات القانونية والانتماءات العاطفية العابرة للحدود.
تتجلّى هذه التناقضات بوضوح فى مواقف متفرّقة، لكنها كاشفة، من بينها التظاهرة الأخيرة التى نظمها عدد من العرب المسلمين أمام السفارة المصرية فى تل أبيب، والتى رفعوا خلالها شعارات تتهم مصر بالمشاركة فى «حصار غزة». الموقف، رغم كونه سياسيًا، يعكس ما هو أعمق من ذلك: أزمة هوية، وشعور بالاغتراب، ورغبة فى إثبات انتماء إلى قضايا الأمة العربية، رغم كون هؤلاء المتظاهرين يحملون الجنسية الإسرائيلية.
التظاهر أمام السفارة المصرية والمشاركة فى أحداث السويداء تناقض الجغرافيا والتاريخ والحدود عرب إسرائيل.. رحلة خفية من التمثيل السياسى إلى الهتاف ضد العرب
فى المقابل، شهدنا فى نفس الفترة تحركًا آخر من نوع مختلف، حين دخل عشرات الشبان الدروز من إسرائيل إلى محافظة السويداء السورية، متضامنين مع أبناء طائفتهم فى مواجهة ما وصفوه بالعنف الذى تمارسه سلطات دمشق. هذه الخطوة تعبّر عن تضامن طائفي عابر للحدود، لكنها تُبرز أيضًا محدودية الهوية الإسرائيلية بالنسبة لهؤلاء الشبان، الذين لم يروا فى مؤسسات الدولة ملاذًا أو سندًا لأبناء طائفتهم فى الخارج.
تكشف هاتان الحادثتان عن مشهد بالغ التعقيد: فمن جهة، هناك تمثيل سياسي للعرب والدروز فى الكنيست الإسرائيلي، ومن جهة أخرى، هناك تصرفات وولاءات توحى بأن هذا التمثيل لا يلغى التوترات العميقة بين الهوية والانتماء. المفارقة أن بعض ممثلي هذه الأقليات فى الكنيست ينتمون إلى أحزاب يمينية تؤيد سياسات الدولة، بينما يتبنّى آخرون مواقف معارضة جذريًا، دون أن يكون لذلك تأثير فعلى على السياسات الكبرى، خاصة تلك المرتبطة بالقضية الفلسطينية أو بالبعد الإقليمي.
وفى هذا السياق، لا يمكن تجاهل دور الحركة الإسلامية فى إسرائيل، التي تنشط ضمن مجتمع الأقلية العربية، وتقدّم نفسها كحامل لمشروع بديل، يربط بين الهوية الإسلامية والانخراط فى السياسة الإسرائيلية من جهة، والتواصل مع القضايا الفلسطينية والعربية من جهة أخرى. لكن مواقف الحركة الإسلامية، سواء فى جناحها الجنوبى المشارك فى الكنيست، أو جناحها الشمالى المحظور، تعكس بدورها التمزق بين الرغبة فى التأثير من داخل المنظومة، والرفض الأخلاقى أو العقائدى لهذه المنظومة نفسها.
انطلاقًا من هذه المعطيات، يناقش هذا المقال إشكالية التمثيل السياسى للعرب والدروز فى إسرائيل، ويحلل الرمزية السياسية والاجتماعية لما حدث مؤخرًا أمام السفارة المصرية وفى محافظة السويداء، كما يتوقف عند أدوار الحركة الإسلامية في إسرائيل، محاولًا فهم حدود الفعل السياسي للأقليات في دولة تُؤسس ديمقراطيتها على هوية دينية إثنية، ويطرح تساؤلات حول جدوى المشاركة السياسية فى ظل ثوابت لا تقبل التعديل.
خلفية تاريخية
بعد نكبة عام ١٩٤٨، وقيام دولة إسرائيل على أنقاض أكثر من ٥٠٠ قرية فلسطينية مهجّرة، بقى نحو ١٦٠ ألف فلسطيني في المناطق التي باتت تحت السيطرة الإسرائيلية. هؤلاء لم يُرحّلوا، لكنهم لم يُعاملوا كمواطنين كاملي الحقوق أيضًا. مُنحوا الجنسية الإسرائيلية، لكنهم خضعوا لقوانين طوارئ عسكرية استمرت حتى عام ١٩٦٦، تقيد حركتهم، وتخضعهم للرقابة والملاحقة. هذه المرحلة شكلت البنية التحتية لسياسات تمييز ممنهج ضدهم، فى التعليم، والسكن، وتخصيص الميزانيات، والمشاركة السياسية.
فى الوقت ذاته، فُرض على الفلسطينيين فى الداخل واقع جديد من الاغتراب عن محيطهم العربي، نتيجة الحصار الجغرافى والسياسي، ففقدوا الاتصال الطبيعى مع باقى الشعب الفلسطيني، وتم عزلهم عن هويتهم القومية بطريقة ناعمة تارة، وقمعية تارة أخرى. استُخدمت أدوات مثل "الأسرلة" (فرض الهوية الإسرائيلية)، والتعليم المنفصل، ومحاولة إنتاج جيل "عربى إسرائيلي" منزوع الانتماء السياسي.
أما الطائفة الدرزية، فقد واجهت مسارًا مغايرًا منذ بدايات تأسيس الدولة. فبدءًا من عام ١٩٥٦، فُرض التجنيد الإجبارى على الشبان الدروز فى الجيش الإسرائيلي، فى خطوة اتُّخذت كجزء من استراتيجية "تفكيك الهوية العربية الجامعة". ومنذ ذلك الوقت، بدأت الدولة تعامل الدروز باعتبارهم "شركاء فى الدفاع عن الدولة"، وتم تقديمهم كمجتمع "مختلف" عن بقية العرب، رغم انتمائهم التاريخى والجغرافى لذات الأرض والشعب.
ولتثبيت هذا الفصل، أُقيمت مؤسسات تعليمية وثقافية خاصة بالدروز، وأُدرجوا فى بعض وظائف الدولة، وخاصة الأمنية والعسكرية، مع الإبقاء على سياسات التمييز المجتمعى والاقتصادي. هذا النموذج خلق فئة من المواطنين يعيشون المفارقة: هم جنود فى جيش الدولة، لكنهم فى الوقت نفسه يعانون من تهميش اقتصادي، وإقصاء عن مواقع التأثير السياسىي والثقافي الحقيقي.
العرب فى إسرائيل
يشكّل المواطنون العرب المسلمون والمسيحيون نحو ٢٠٪ من سكان إسرائيل، وينحدر معظمهم من بقايا الشعب الفلسطيني الذى لم يُهجّر بعد نكبة ١٩٤٨. على الرغم من حصولهم على الجنسية الإسرائيلية، فإن علاقتهم بالدولة كانت ولاتزال علاقة مأزومة، يطغى عليها الشعور بالتمييز البنيوى والمجتمعي. وعلى المستوى السياسي، شارك العرب فى الكنيست منذ قيام الدولة، لكن تمثيلهم ظل دائمًا محاصرًا بسقف منخفض من التأثير، إذ يُنظر إليهم داخل المؤسسة الإسرائيلية على أنهم "جسم غريب"، لا يُعول عليه فى اتخاذ القرار، بل يُستخدم أحيانًا لتجميل صورة الديمقراطية الإسرائيلية أمام الخارج.
خلال السنوات الأخيرة، خصوصًا مع تشكل "القائمة المشتركة"، حاول العرب رفع صوتهم الجماعى فى البرلمان، دفاعًا عن قضايا الداخل الفلسطيني، ورفضًا لسياسات الاحتلال. لكن هذا التمثيل دخل فى أزمة جديدة بعد انقسام القائمة، ودخول الجناح الجنوبى للحركة الإسلامية – بقيادة منصور عباس – فى ائتلاف حكومى مع اليمين الإسرائيلي، ما أحدث جدلًا واسعًا بين القبول بالواقعية السياسية من جهة، واتهامات بالتطبيع والانخراط فى مؤسسات الاحتلال من جهة أخرى.
فى هذا السياق المأزوم، ظهرت احتجاجات أمام السفارة المصرية فى تل أبيب من قبل عشرات النشطاء العرب، أغلبهم محسوب على تيارات إسلامية، تتهم مصر بمشاركة إسرائيل فى "حصار غزة". ورُفعت لافتات وهُتفت شعارات تُدين القاهرة، دون أن يوجه المحتجون انتقادات مباشرة للدولة العبرية نفسها، التى تشن الحروب وتغلق المعابر وتفرض السياسات على غزة. هذا النوع من الانتقائية فى الغضب يكشف عن خلل فى البوصلة السياسية، وتحولٍ خطير فى سلم الأولويات.
تطرح هذه الوقائع أسئلة جوهرية: هل بات بعض عرب الداخل الفلسطينى أدوات فى صراعات إقليمية لا تمثلهم؟ وهل يُستخدم غضبهم الحقيقى ضد الظلم الفلسطينى من قبل جماعات إخوانية أو قنوات ممولة إقليميًا لتصفية حسابات مع أنظمة عربية، حتى وإن كان الثمن هو الاصطفاف الرمزى أو الفعلى مع الرواية الإسرائيلية؟ إنها إشكالية الهوية حين تُختطف، والسياسة حين تتحوّل إلى أداة فى خدمة الغير، لا تعبيرًا عن الذات.
الحركة الإسلامية بين "الداخل الفلسطيني" وملاعب الإقليم
تُعد الحركة الإسلامية فى الداخل الفلسطيني أحد أبرز الفاعلين فى الحياة السياسية والاجتماعية لعرب ٤٨. وقد انقسمت الحركة منذ عام ١٩٩٦ إلى جناحين متباينين فى التوجه والمنهج؛ الجناح الجنوبي الذى اختار العمل السياسي والمؤسسي داخل إسرائيل، ويقوده حاليًا منصور عباس، بينما تبنّى الجناح الشمالى بقيادة الشيخ رائد صلاح نهجًا أكثر تصادمية مع الدولة، وانخرط فى خطاب ديني–سياسي يُركّز على قضايا القدس والمسجد الأقصى، حتى تم حظره رسميًا عام ٢٠١٥ من قبل الحكومة الإسرائيلية بتهمة "التحريض على العنف والتواصل مع جهات معادية".
اختار الجناح الجنوبى مسارًا براغماتيًا تمثل فى دخول الكنيست الإسرائيلى والانخراط فى الائتلاف الحكومى لأول مرة فى تاريخ عرب الداخل، عبر حزب "راعام" بقيادة منصور عباس. وقد أثار هذا القرار جدلًا واسعًا داخل المجتمع العربى فى إسرائيل، بين من رأى فيه فرصة لتحصيل مكاسب مدنية واقتصادية، ومن اعتبره خطوة تطبيعية تُشرعن الوجود الصهيوني. ومع ذلك، حافظ هذا الجناح على خطاب متزن تجاه الإقليم، وحرص على عدم الانخراط العلنى فى النزاعات السياسية بين الدول العربية.
فى المقابل، لا يزال خطاب الجناح الشمالى – رغم الحظر – حاضرًا بقوة من خلال شبكات دعوية ونشاطات غير رسمية، وكان له دور بارز فى الأحداث الأخيرة المتعلقة بالحرب على غزة. فقد اتّسمت منشورات وتصريحات مقربين من هذا التيار بنبرة حادة تجاه مصر، إذ صُوّرت القاهرة كجهة متآمرة ضد غزة، دون أى ذكر أو إدانة واضحة لإسرائيل التى تشن الحرب فعليًا. هذا الخطاب يثير تساؤلات حول دوافعة، ويُلمّح إلى أن البوصلة الأخلاقية والسياسية قد تم اختزالها فى صراع محاور وليس فى الدفاع الحقيقى عن غزة.
لا يمكن فهم مواقف الجناح الشمالى دون التوقف عند علاقته القديمة بحركة الإخوان المسلمين، التى تشكّل المرجعية الأيديولوجية الأساسية له. فهذه العلاقة تتجاوز الانتماء الفكرى إلى الاصطفاف السياسى فى قضايا المنطقة. ويبدو أن بعض أطراف الحركة يستخدمون الغضب الشعبى داخل الداخل الفلسطيني كأداة ضغط ضد أنظمة عربية، فى إطار أجندة إخوانية أوسع، لا تخلو من محاولات تصفية حسابات سياسية، حتى وإن أدى ذلك إلى تقاطعات ضمنية مع الرواية الإسرائيلية، أو إلى تحييد العدو الحقيقي فى لحظة الدم والدمار.
الدروز.. ولاءٌ للدولة وتضامنٌ مع الطائفة
يُشكّل الدروز فى إسرائيل فئة فريدة من نوعها، إذ ينتمون إلى أقلية دينية صغيرة، لكنهم يحتلون موقعًا حساسًا داخل الدولة العبرية، خاصة فى المؤسستين الأمنية والعسكرية. فمنذ عقود، يلتزم الدروز بالخدمة الإلزامية فى الجيش الإسرائيلي، ويشارك العديد منهم فى وحدات النخبة، بل ويشغل بعضهم مناصب مرموقة فى الشرطة وجهاز الأمن العام (الشاباك). هذا الاندماج منحهم وضعًا مختلفًا عن بقية المواطنين العرب، لكنه فى الوقت ذاته أثار نقاشًا دائمًا حول حدود ولائهم وهويتهم.
رغم هذا الاندماج الرسمي، لا يبدو أن الدروز تخلّوا عن انتمائهم الطائفى الممتد عبر الحدود، خصوصًا فى أوقات الأزمات التى تمسّ دروز سوريا ولبنان. فى الأسابيع الماضية، كشفت تقارير إعلامية عن عبور عشرات من الشباب الدروز من الجليل والجولان إلى محافظة السويداء السورية، فى خطوة تضامنية مع الطائفة الدرزية هناك، التى تعانى من ضغوط أمنية واقتصادية نتيجة تفكك الدولة السورية وتعدّد الميليشيات.
عبور الحدود نحو السويداء لم يكن مجرد حادث فردى أو تعبيرًا عاطفيًا، بل مثّل لحظة رمزية لإعادة التأكيد على الهوية الطائفية العابرة للدول، والتى تبقى كامنة حتى فى ظل مواطنة رسمية فى دولة مثل إسرائيل. فالدروز فى الجليل والجولان يتحدثون نفس اللغة، ويتشاركون القيم والعادات نفسها مع إخوانهم فى سوريا ولبنان، ما يجعل من التضامن الطائفى أمرًا شبه بديهى فى وعيهم الجمعي.
تثير هذه الخطوة تساؤلات حادة داخل إسرائيل: كيف تسمح الدولة لمواطنيها بعبور الحدود إلى دولة تصنّفها "عدوة"، بل وتخضعها لرقابة أمنية مشددة؟ وهل يمثل ذلك تمردًا ناعمًا على المشروع الصهيوني؟ أم أنه يُفهم كاستثناء طائفى لا يهدد البنية العامة للدولة؟ فى كل الأحوال، تُعيد هذه الحادثة تسليط الضوء على التوتر الدائم بين المواطنة الرسمية والانتماء الثقافى والديني، وتُبرز مدى تعقيد الهوية الدرزية فى سياق صراع الشرق الأوسط.
قانون القومية.. تكريس التمييز
فى يوليو ٢٠١٨، صادق الكنيست الإسرائيلي على "قانون القومية اليهودية"، الذى اعتبر أن إسرائيل هى "الوطن القومي للشعب اليهودي فقط"، وأن "حق تقرير المصير فى هذه الأرض حكر على اليهود وحدهم". لم يكن هذا القانون مجرد إعلان هوية، بل مثل لحظة فارقة فى العلاقة بين الدولة والأقليات غير اليهودية، وعلى رأسهم العرب والدروز. فبموجبه، لم يعد المواطن العربى أو الدرزى يُنظر إليه كشريك فى الكيان السياسي، بل كمقيم فى دولة تُعرِّف نفسها بشكل حصرى على أسس إثنية.
أحد أخطر ما جاء فى القانون أنه لم يتضمن أى إشارة إلى مبدأ المساواة، بل تجاهله تمامًا، وهو ما اعتُبر تراجعًا عن الطابع الديمقراطى للدولة لصالح تعزيز الهوية اليهودية. وبهذا، أضفى القانون طابعًا قانونيًا على التمييز القائم أساسًا فى كثير من السياسات والممارسات، من توزيع الأراضى إلى التوظيف والتعليم. الأقليات شعرت بأن مكانتها كمواطنين من الدرجة الثانية قد أُقرت صراحة.
كان وقع القانون أشد على الطائفة الدرزية، التى يرتبط كثير من أبنائها بمؤسسات الدولة، ويؤدون الخدمة العسكرية الإلزامية. خرج الآلاف من الدروز فى مظاهرات غاضبة شملت تل أبيب والقدس، رافعين شعارات تطالب بالمساواة والاعتراف الكامل بهم كمواطنين. بعض زعمائهم اعتبر القانون "طعنة فى الظهر" و"إهانة لشراكتهم التاريخية مع الدولة"، فيما هدد آخرون بإعادة النظر فى هذه الشراكة التى لم تُقابل بالاحترام الكافي.
كان يفترض أن تُمثل الطائفة الدرزية نموذجًا للاندماج المدنى فى إسرائيل، لكن "قانون القومية" هزّ هذا النموذج من أساسه. فمن حيث أرادت إسرائيل أن تُرسخ يهوديتها قانونًا، فقد عمّقت شعور الانفصال والاغتراب لدى جزء من مواطنيها، بما فيهم أولئك الذين آمنوا بالدولة وخدموها. بذلك، تحول القانون إلى نقطة مفصلية أعادت تعريف العلاقة بين إسرائيل وأقلياتها، ليس فقط على مستوى الحقوق، بل على مستوى الهوية والانتماء أيضًا.
من غزة إلى السويداء
شهدت السنوات الأخيرة مشاركة بعض أبناء الداخل الفلسطيني، من مسلمين ودروز، فى قضايا إقليمية تتجاوز حدودهم الجغرافية، مثل الاحتجاجات أمام السفارات، أو محاولات التسلل عبر الحدود إلى مناطق النزاع فى سوريا. هذه التحركات تثير تساؤلات جوهرية حول دوافعها: هل تنبع من مشاعر تضامن دينى أو قومى حقيقي؟ أم أنها مدفوعة بأجندات سياسية خارجية تستخدم العاطفة كغطاء؟
تنظيم الإخوان المسلمين لعب دورًا محوريًا فى تغذية مشاعر الغضب تجاه الدولة المصرية، خاصة بعد الإطاحة بحكم الجماعة فى عام ٢٠١٣. استخدمت الحركة، ومعها منصات إعلامية ممولة من قطر وتركيا، روايات تركز على المظلومية وتُحمّل مصر مسئولية ما يجرى فى غزة، مما أثر بشكل واضح على شباب من فلسطينيى الداخل، ودفع بعضهم إلى الانخراط فى احتجاجات ذات طابع سياسى حاد، لا تخلو من التحريض ضد القاهرة.
على الجانب الآخر، حاولت إيران وحزب الله التغلغل فى النسيج الدرزى داخل إسرائيل وسوريا، من خلال استثمار رمزية "مقاومة إسرائيل" ومظلومية الطائفة فى بعض المناطق. ورغم أن معظم الدروز فى الداخل ظلوا حذرين من الاصطفاف فى المحور الإيراني، إلا أن بعض الناشطين تأثروا بالرواية الطائفية التى تروّج لها طهران، ما أدى إلى تحركات فردية أو جماعية للتواصل مع دروز السويداء أو التعبير عن الغضب ضد سياسات الدولة.
هذا التداخل بين العاطفة الدينية أو الطائفية، وبين التدخل الخارجي، أوجد واقعًا مركبًا. فبينما يُعبّر بعض المتظاهرين بصدق عن تضامنهم مع الفلسطينيين أو مع دروز سوريا، تُوظّف تحركاتهم فى سياقات سياسية أوسع، غالبًا دون وعى منهم. وهكذا تصبح قضايا التضامن الإنسانى عرضة للتشويه، وتُستخدم كأدوات فى صراعات إقليمية تتجاوز قدراتهم ومصالحهم الوطنية المباشرة.
تمثيل مزدوج فى برلمان واحد
يحمل وجود نواب عرب ودروز داخل الكنيست الإسرائيلي دلالة ظاهرية على التعددية السياسية والانفتاح الديمقراطي، إلا أن هذه الصورة غالبًا ما تكون مضللة. فهؤلاء النواب، على اختلاف انتماءاتهم السياسية بين اليمين واليسار، يواجهون واقعًا من القيود الهيكلية والاعتبارات الأمنية والقومية التى تُضعف من قدرتهم على التأثير فى السياسات الجوهرية للدولة.
رغم أن النواب العرب يُمثّلون شريحة واسعة من المواطنين الفلسطينيين فى الداخل، فإن محاولاتهم لتعديل قوانين تمس جوهر الطابع اليهودى للدولة غالبًا ما تصطدم بجدار الرفض، بل تُصوَّر أحيانًا كتهديد للأمن القومي. فهم لا يملكون الأدوات السياسية الكافية لإحداث تغيير حقيقى فى سياسات التمييز أو فى تشريعات مثل "قانون القومية"، بل يُتهمون فى أحيان كثيرة بالولاء الخارجى أو بتبنى أجندات مناوئة للدولة.
أما النواب الدروز، فرغم انخراطهم فى مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، يجدون أنفسهم أمام معادلة صعبة: الحفاظ على ولائهم للدولة، وفى الوقت ذاته الدفاع عن حقوق طائفتهم التى باتت تشعر بالتهميش، خاصة بعد قانون القومية الذى همّشهم صراحة. ويزيد من تعقيد المشهد أن بعض هؤلاء النواب لا يملكون أى تأثير على القرارات العسكرية أو الأمنية التى قد تطال دروز سوريا أو لبنان، ما يعكس حدود الدور الممنوح لهم ضمن النظام السياسى الإسرائيلي.
فى ضوء كل ذلك، تبدو المشاركة السياسية للعرب والدروز فى الكنيست وكأنها أداء رمزى أكثر منها تمثيل فعّال. فبلا نفوذ حقيقى أو قدرة على التأثير فى القوانين المصيرية، قد تتحول هذه المشاركة إلى ما يشبه "الديكور الديمقراطي"، الذى يُستخدم لتجميل صورة الدولة فى المحافل الدولية، دون أن يعكس واقعًا من العدالة والمساواة داخل المجتمع الإسرائيلي.
تناقضات
بين تظاهرات ترفع شعارات معادية لمصر فى وقت تحتل فيه إسرائيل القدس وتقصف غزة، وبين شبّان يعبرون الحدود إلى سوريا تحت راية جيش سبق أن حاربها، يعيش العرب والدروز فى إسرائيل واحدة من أعقد مفارقات الهوية والانتماء. هم مواطنون فى دولة تُعرّف نفسها بيهوديتها، وتخوض صراعات دائمة مع الجوار العربي، فيما يَنبض فى وجدانهم شعور بالانتماء إلى أمة أوسع، تتناقض فى سياساتها ومواقفها. هذه المفارقة، التى تمزج بين الاندماج القسرى والانتماء المرفوض، تُنتج أجيالًا تعانى من التمزق الداخلى والتردد فى تحديد موقعها من القضايا المصيرية.
ولكى لا يصبح هؤلاء وقودًا فى معارك لا تخصهم، أو أوراقًا تُستخدم فى بازار السياسات الإقليمية، فإن الحاجة باتت ملحّة لإعادة النظر فى الأدوار والمسئوليات. على النخب الثقافية والسياسية العربية والدرزية فى الداخل الإسرائيلى أن تعيد تعريف العلاقة بين الهوية والمواطنة، بعيدًا عن الهتاف المؤقت والشعارات المستهلكة. المطلوب ليس فقط التعبير عن الغضب أو الانحياز، بل صياغة مشروع وطنى يعترف بالخصوصية ويعزز المشاركة، دون الارتهان لخطابات خارجية قد ترفع الصوت، لكنها لا تقدم حلًا.
وفى المقابل، لا بد للحكومات العربية أن تُحسن قراءة هذا الواقع المعقد. الانفتاح المدروس على عرب الداخل ليس ترفًا سياسيًا، بل ضرورة استراتيجية. تجاهلهم، أو التعامل معهم ككائنات هامشية، يفتح الباب أمام قوى متطرفة لاستقطابهم تحت شعارات طائفية أو أممية. الاعتراف بتنوعهم واحتياجاتهم هو أول خطوة نحو تحصينهم من الوقوع فريسة فى لعبة المصالح المتشابكة.
أما الحركة الإسلامية داخل إسرائيل، فمدعوّة إلى مراجعة عميقة لخطابها، ولمصادر تمويلها، ولوجهتها الفكرية والتنظيمية. استمرارها فى تبنّى خطاب الإخوان، الذى يتغذّى على الصدام مع الدولة وتحريض المجتمعات، يضعها فى خانة التبعية لا القيادة. عليها أن تختار: إما أن تكون حركة مسئولة تناضل من داخل الواقع لأجل العدالة والمواطنة، أو تظل مجرد صدى لمشروع خارجى لا يملك لها ولا لأتباعها مستقبلًا. فالمعركة الحقيقية اليوم ليست على الهوية فحسب، بل على الوعي، والقدرة على صناعة مستقبل لا يُرتهن فيه أحد لغير إرادته.