في مثل هذا اليوم من عام 2008، غاب عن عالمنا واحد من أعظم مخرجي السينما العربية والعالمية، المخرج المصري العالمي يوسف شاهين.
وبرغم مرور 17 عامًا على رحيله، لا تزال أفلامه تُعرض وتُدرّس وتُلهم أجيالًا جديدة من صناع الفن، لما تحمله من فكر نقدي جريء ورؤية إنسانية متفردة.
شاهين لم يكن مجرد مخرج، بل كان مشروعًا فكريًا وسينمائيًا كاملًا، جمع بين الحرفة والتمرد، وبين الجمال والرسالة.
النشأة والبدايات
ولد يوسف جبرائيل شاهين في 25 يناير 1926 بمدينة الإسكندرية، لأسرة متعددة الثقافات؛ فوالده لبناني الأصل وأمه يونانية، ما منحه منذ طفولته وعيًا مبكرًا بالتنوع والاختلاف.
تلقى تعليمه في مدرسة "كلية فيكتوريا" العريقة، ثم سافر إلى الولايات المتحدة لدراسة المسرح والسينما في معهد باسادينا بكاليفورنيا، قبل أن يعود إلى مصر في نهاية الأربعينيات ليبدأ مشواره الفني.
أخرج أول أعماله السينمائية "بابا أمين" عام 1950، تبعه فيلم "ابن النيل" عام 1951، والذي عُرض في مهرجان "كان"، ليضع اسمه سريعًا على خريطة المخرجين العالميين.
محطات إبداعية بارزة
على مدار أكثر من 50 عامًا، قدم شاهين أكثر من 40 فيلمًا، جمع فيها بين جمال الصورة وعمق الفكرة، فكانت سينماه بمثابة مرآة للواقع المصري والعربي، لا تخشى المواجهة ولا تساوم على المبدأ.
من أبرز أعماله: "باب الحديد" (1958): فيلم من الطراز العالمي، صنع فيه شاهين شخصية "قناوي"، عامل المحطة المهووس، وجسّدها بنفسه، وقد اعتُبر الفيلم من روائع السينما الواقعية.
• "الأرض" (1969): ملحمة سينمائية عن مقاومة الفلاح المصري للاستعمار والإقطاع، تحمل رمزية عميقة للارتباط بالأرض والهوية.
• "العصفور" (1973): وثيقة سياسية وفنية تنتقد الفساد والهزيمة التي سبقت نكسة 1967، وتُظهر الوجه المظلم للسلطة في تلك الحقبة.
• "الناصر صلاح الدين" (1963): عمل تاريخي ضخم تناول شخصية البطل الإسلامي بمنظور قومي حداثي، جمع فيه بين الفن والدعوة إلى الوحدة العربية.
• "المهاجر" (1994): معالجة جريئة لقصة يوسف التوراتية، أثارت جدلًا واسعًا وواجهت دعاوى قضائية، لكن شاهين دافع عن حرية الفن وانتصرت رؤيته.
• "المصير" (1997): فيلم فلسفي تناول فيه سيرة الفيلسوف ابن رشد، منتصرًا لقيم العقل والحرية والتسامح في وجه التطرف والانغلاق.
• "هي فوضى" (2007): آخر أفلامه، شارك في إخراجه خالد يوسف، وكان صرخة في وجه الفساد والاستبداد، وكأن شاهين أراد أن يختم مشواره كما بدأه: بموقف.
رباعية الإسكندرية
تميز شاهين بتجربة فريدة في سرد سيرته الذاتية من خلال ما عُرف بـ "رباعية الإسكندرية"، والتي بدأت بفيلم "إسكندرية... ليه؟" (1978)، الحاصل على جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين، وتبعه "حدوتة مصرية" (1982)، ثم "إسكندرية كمان وكمان" (1990)، وأخيرًا "إسكندرية نيويورك" (2004).
في هذه الأفلام، تقاطع الشخصي مع العام، والسياسي مع الحميمي، في سردية تُبرز تحولات المجتمع المصري وتشكّلات الهوية.
جوائز وتكريمات عالمية
نال شاهين عددًا هائلًا من الجوائز والتكريمات، أبرزها:
• جائزة الدب الفضي من مهرجان برلين.
• جائزة اليوبيل الذهبي من مهرجان "كان" عام 1997 عن مجمل أعماله.
• وسام الفنون والآداب الفرنسي، تكريمًا لإسهاماته في السينما والثقافة.
• إدراج 7 من أفلامه ضمن قائمة أهم 100 فيلم في تاريخ السينما المصرية.
الرحيل الصادم والوداع الكبير
في 15 يونيو 2008، أصيب شاهين بنزيف في المخ أُدخل على إثره في غيبوبة، وتم نقله للعلاج في فرنسا، ثم عاد إلى القاهرة ليفارق الحياة في 27 يوليو من العام نفسه، عن عمر ناهز 82 عامًا.
أقيمت جنازته في كاتدرائية القيامة بالعباسية، وحضرها عدد كبير من الفنانين والسياسيين، ونعته شخصيات عربية ودولية، من بينهم الرئيس الفرنسي آنذاك نيكولا ساركوزي، الذي وصفه بـ "رمز الحريات".
إرث خالد وتأثير لا يُمحى
ما زالت أعمال يوسف شاهين تُعرض في مهرجانات عربية وعالمية، وتُدرّس في جامعات السينما بوصفها نماذج للفن المقاوم والتجريب الصادق.
كما تخرّج من تحت عباءته عدد من النجوم والمخرجين، أبرزهم خالد يوسف، ويسري نصر الله، وهاني سلامة، وخالد النبوي.
ظل شاهين حتى وفاته يؤمن بأن السينما ليست مجرد وسيلة ترفيه، بل أداة للطرح والتغيير والمواجهة، وهو ما جعله أحد أنبل الأصوات السينمائية في تاريخ الفن العربي.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل الإخباري يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.