في مشهد إقليمي معقد، باتت تحكمه التحالفات المتغيرة والمصالح المتشابكة، تبرز العلاقات بين مصر والسعودية، بوصفها واحدة من أعمدة التوازن العربي، لكنها لم تعد تقف عند حدود الدعم التقليدي والمواقف المتقاربة، بل دخلت مرحلة أكثر عمقا وتعقيدا، عنوانها الشراكة الانتقائية والمصالح المحسوبة، وبينما تمضي الرياض بثبات في تنفيذ رؤيتها الطموحة للنهضة الاقتصادية، تسعى القاهرة إلى تثبيت مكانتها كقوة سياسية وجغرافية لا يمكن تجاوزها، وفي هذا السياق تتقاطع الخطوط وتتداخل الحسابات، لتصنع شكلًا جديدًا من التحالف لا يشبه ما قبله، تحالف لا يقوم على العواطف أو التاريخ، بل على معادلات دقيقة من الاستقرار، والمكاسب، والنفوذ المتبادل.
وبالأمس، استقبل الدكتور بدر عبد العاطي، وزير الخارجية والهجرة، نظيره السعودي، الأمير فيصل بن فرحان، في مدينة العلمين، حيث عقد الوزيران جلسة مباحثات عكست متانة العلاقات بين القاهرة والرياض، وعمق الروابط التاريخية والأخوية التي تجمع البلدين والشعبين الشقيقين.
وأكد الوزيران، أن العلاقات المصرية السعودية، تشهد تطورا غير مسبوق، مدفوعة بتوجيهات القيادة السياسية في البلدين، ممثلة في الرئيس عبد الفتاح السيسي، وخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد، الأمير محمد بن سلمان، بهدف ترسيخ دعائم الشراكة الاستراتيجية وتوسيع آفاق التعاون في مختلف المجالات.
وأشاد الجانبان، بالزخم المتنامي الذي تشهده العلاقات الثنائية، والذي تجسد في تأسيس مجلس التنسيق الأعلى المصري السعودي، كآلية رفيعة المستوى لتوحيد الرؤى وتعزيز الشراكة في الملفات الاقتصادية والاستثمارية والتجارية، بما يلبي تطلعات الشعبين ويدفع باتجاه تحقيق التنمية المستدامة.
وفي سياق متصل، شدد الوزير عبد العاطي، على الرفض القاطع لأي محاولات مشبوهة من بعض المنصات الإلكترونية التي تسعى للنيل من متانة العلاقات المصرية السعودية، أو بث الشكوك حول صلابتها، وأكد أن العلاقة بين القاهرة والرياض تتجاوز أطر التحالف التقليدي، وهي نسيج متكامل من التاريخ والمصالح والمصير المشترك.
وتشهد العلاقات المصرية السعودية، تحولا لافتا في طبيعتها خلال عام 2025، حيث انتقلت من نمط التحالف التقليدي القائم على الدعم المالي والمساندة السياسية إلى نموذج أكثر تعقيدا يقوم على تبادل المصالح ومشروعات إنتاجية مشتركة قائمة على الجدوى الاقتصادية والحوكمة.
وتشير بيانات رسمية، إلى أن حجم الاستثمارات السعودية المباشرة في مصر تجاوز 33.2 مليار دولار، حتى منتصف العام الجاري، موزعة على أكثر من 6800 شركة، تتركز في قطاعات العقارات بنسبة 40%، والسياحة بنسبة 18%، والزراعة والصناعات الغذائية بنسبة 16%، والخدمات المالية والطاقة والتكنولوجيا بنسبة 26%.
وعلى المستوى السياسي، يستمر التنسيق الهادئ بين القاهرة والرياض، في عدد من الملفات الإقليمية الحساسة، أبرزها الأمن في البحر الأحمر، ومستقبل السودان، والمسار الليبي، وملف أمن الملاحة.
وعلى صعيد المشاريع المشتركة، دخل مشروع الربط الكهربائي السعودي المصري بقيمة 1.8 مليار دولار مراحله الأخيرة تمهيدا للتشغيل الجزئي نهاية 2025، إلى جانب توسعات لوجستية في الموانئ ومحاور التجارة بين البحرين الأحمر والمتوسط، وتسعى القاهرة والرياض إلى إطلاق مدينة طبية استثمارية في صعيد مصر بتمويل سعودي يصل إلى 400 مليون دولار.
والعلاقة المصرية السعودية، تمر حاليا بمرحلة إعادة تعريف، لم تعد فيها المساعدات المالية وحدها أساس التحالف، بل أصبحت الشراكة مشروطة بالنتائج وقائمة على تبادل المنفعة وتوازن المصالح، وتبدو القيادة السعودية أكثر ميلًا لاستخدام أدوات السوق والاستثمار طويل الأجل، بينما تحاول القاهرة الحفاظ على موقعها كشريك استراتيجي لا غنى عنه في معادلات الأمن العربي، ويمثل عام 2025 نقطة تحول لهذا التحالف، ليتحول إلى نموذج عربي جديد من الشراكة الذكية.
والعلاقة بين القاهرة والرياض لم تتراجع، بل تطورت من منطق "الدعم غير المشروط" إلى "الشراكة المشروطة بالنتائج"، ورغم تباينات الرؤى في بعض الملفات، فإن ما يجمع البلدين أكثر بكثير مما يفرقهما، خصوصا في ظل التحديات الإقليمية المتصاعدة من البحر الأحمر إلى الخليج وشرق المتوسط.
وتشهد العلاقات المصرية السعودية تحولا لافتا في بنيتها وأهدافها، مع انتقالها من مرحلة "التحالف التقليدي" إلى مرحلة أكثر واقعية وبراجماتية، تقوم على تنسيق المصالح، فبعد سنوات من الدعم المباشر والاستثمارات الضخمة، تسعى المملكة اليوم إلى تمكين استثماراتها في مصر ضمن أطر إنتاجية واضحة، بينما تركز القاهرة على تثبيت موقعها كلاعب محوري في الأمن الإقليمي ومعبر استراتيجي بين الخليج وشرق المتوسط.
وفي النصف الأول من عام 2025، تكثفت اللقاءات الثنائية بين مسؤولين رفيعي المستوى من الجانبين، خاصة في ملفات الاستثمار والطاقة والأمن الإقليمي. وتزامنت هذه التحركات مع تقدم مفاوضات سعودية مصرية لإعادة تقييم بعض المشروعات المتعثرة، وطرح مشروعات جديدة قائمة على الإدارة المشتركة والعوائد الواضحة، في ربط واضح بين الجدوى والحوكمة والربح.
واقتصاديًا، لا تزال السعودية من أكبر المستثمرين في مصر، لكن النهج تغير، فالمملكة تسعى لأن تكون شريكا في الإنتاج وسلاسل التوريد، خاصة في القطاعات الواعدة مثل الطاقة المتجددة، اللوجستيات، وصناعة الأغذية، وبالمقابل، تبحث مصر عن شركاء قادرين على دعم استقرارها المالي من خلال قنوات مستدامة، وبينما تتحرك السعودية بسرعة نحو أهداف رؤية 2030، تسعى مصر لضمان موقع فاعل في ترتيبات الإقليم الجديد، دون أن تتخلى عن استقلالية قرارها.
الرسالة الواضحة، هي أن القاهرة والرياض تدركان أن مستقبلهما مرتبط بتحالف ذكي لا يقوم على الاندماج المطلق، بل على التفاهم العميق والندية المحسوبة، وهو ما يفتح المجال لتأسيس نموذج عربي جديد في العلاقات الثنائية، يقوم على الواقعية والشراكة، لا على المجاملات السياسية أو الرهانات المفتوحة.
كما تشهد العلاقات المصرية السعودية، تحولا نوعيا يترجم في سلسلة من التحركات السياسية والاقتصادية التي تكشف عن ميلاد مرحلة جديدة من التعاون الاستراتيجي القائم على المصالح المتبادلة، فخلال الأشهر الماضية برزت مؤشرات قوية على إعادة هيكلة العلاقة عبر أدوات عملية تبدأ من مشاريع الربط الكهربائي بقيمة تتجاوز 1.8 مليار دولار مرورا باتفاقيات كفاءة الطاقة وتأسيس مجلس تنسيق أعلى وصولًا إلى تعزيز التبادل التجاري الذي ارتفع بنسبة تفوق 32٪ خلال 2024 فقط، ليبلغ 6.5 مليار دولار، وهو ما يعكس نقلة نوعية من منطق الدعم الثنائي إلى منطق التكامل الإنتاجي والمنافسة الإقليمية المشتركة.
المشهد الإقليمي بدوره يفرض تحديات كبرى تدفع القاهرة والرياض إلى توحيد المواقف في ملفات مثل غزة وليبيا والسودان، حيث تعمل العاصمتان ضمن تنسيق صامت لكن فعال لبناء موقف عربي متماسك يتعامل مع تداعيات ما بعد الحرب ويتصدى لأي ترتيبات إقليمية تستهدف تقويض الدور العربي.
أما داخليًا فقد دخلت الاستثمارات السعودية في مصر مرحلة التمكين المؤسسي عبر اتفاقات الحماية والتسهيلات وتفعيل آليات التحكيم المشترك مما يضعها ضمن الدول الخمس الأكبر استثمارًا في السوق المصري، في المقابل فتحت السعودية المجال أمام شركات مصرية كبرى للعمل في مجالات الطاقة والصحة والبنية التحتية بدعم حكومي مباشر، ما يؤكد أن العلاقة لم تعد مشروطة بالتحولات السياسية بل محكومة بقواعد الحوكمة والمصالح المتبادلة إن هذا التحول يضع العلاقة بين البلدين في مسار هندسي جديد يمكن تسميته بتحالف الإنتاج لا المساندة، وشراكة الضرورة لا المجاملة، ومرحلة التحرك الصامت نحو صياغة توازنات إقليمية مستدامة.