تعثر مسار المفاوضات السورية الإسرائيلية في اللحظة الأخيرة بعدما أعادت تل أبيب طرح مطلب إنشاء "ممر إنساني" إلى محافظة السويداء جنوب سوريا.
فجّر الشرط أزمة حادة، وأوقف الإعلان المتوقع عن اتفاق أمني كانت واشنطن تراهن عليه كإنجاز دبلوماسي مهم لإدارة ترامب في الشرق الأوسط.
وقاد المبعوث الأمريكي توم باراك جولات تفاوضية مكوكية في باكو وباريس ولندن، ثم سرّع وتيرة المحادثات قبل انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
ودفع باراك باتجاه صياغة اتفاق شامل ينشئ منطقة منزوعة السلاح في الجنوب السوري، ويعيد ضبط قواعد الاشتباك. لكن إسرائيل أعادت المطلب المثير للجدل، وأحرجت الوسطاء، وفقًا لصحيفة الإندبندنت البريطانية.
من جانبها، رفضت دمشق بشكل قاطع إدخال الممر الإنساني في الاتفاق. اعتبر الرئيس أحمد الشرع أن المطلب يشكّل خرقًا للسيادة السورية، ويفتح الباب أمام تدخلات عسكرية مقنّعة.
أبلغت مصادر سورية وأمريكية متقاطعة أن الإصرار الإسرائيلي على الشرط عطّل الصفقة، وأجبر واشنطن على خفض سقف التوقعات بشأن احتمال التوصل لاتفاق مستدام، وفقا لصحيفة نيويورك تايمز.
وحاول باراك احتواء الأزمة، وأعلن أن واشنطن تدرس خيار "اتفاق خفض التصعيد" بدلًا من الاتفاق الأمني الشامل.
اقترح أن توقف إسرائيل ضرباتها الجوية مقابل التزام سوري بعدم نشر معدات ثقيلة قرب الحدود. لكنه اعترف بأن الخلافات الجوهرية ما زالت تعيق أي تقدم.
واستغل الرئيس الانتقالي أحمد الشرع منصة الأمم المتحدة للتعبير عن قلق دمشق فقال بصراحة: "نحن نخاف من إسرائيل، ونخشى مماطلتها، وليس العكس".
كشف خطابه عن شعور بالريبة إزاء نوايا تل أبيب، ووجّه رسالة مباشرة إلى الوسطاء. وفي المقابل، رد نتنياهو بتأكيد أن أي اتفاق يجب أن يضمن أمن إسرائيل، ويشمل نزع سلاح الجنوب، ويحمي الدروز داخل سوريا.
وأشعل ملف الدروز مواجهة غير مباشرة بين الجانبين. استندت إسرائيل إلى وجود 120 ألف درزي على أراضيها، يخدم كثير منهم في الجيش الإسرائيلي، واستخدمت هذه الورقة لتبرير الضربات العسكرية في سوريا.
بررت تل أبيب تدخلاتها بأنها تحمي الطائفة التي تعرضت لمجزرة دامية في السويداء خلال يوليو الماضي أودت بحياة مئات المدنيين. رفضت دمشق المنطق الإسرائيلي، واعتبرته ستارًا لفرض نفوذ جديد في الجنوب.
وتجاوزت التداعيات البعد المحلي. دعمت واشنطن موقف تل أبيب في مسألة حماية الدروز، بينما تبنّت موسكو موقفًا أقرب إلى دمشق.
ضغطت روسيا من خلال اتصالات غير معلنة لإحياء اتفاق فك الاشتباك لعام 1974، واعتبرت أن العودة إليه أفضل صيغة لوقف التصعيد. تحركت إيران بدورها لتعزيز وجودها العسكري في محيط دمشق، وأرسلت رسائل تحذيرية من أن أي اتفاق يستثنيها لن يصمد.
ومنذ سقوط نظام بشار الأسد في ديسمبر الماضي، كثفت إسرائيل غاراتها الجوية على العمق السوري، ونفذت عمليات توغل محدودة في الجنوب.
استهدفت تلك الضربات مخازن أسلحة وبنى تحتية عسكرية، وأرسلت رسالة واضحة بأنها لن تسمح بعودة سوريا إلى معادلة القوة القديمة. في المقابل، أعاد الشرع ترتيب التحالفات الداخلية، وأعاد طرح فكرة "المقاومة الوطنية" كأداة لردع إسرائيل.
وأدارت واشنطن اللعبة بدقة، لكنها واجهت مأزقًا متصاعدًا. راهن الدبلوماسيون الأميركيون على صفقة تعيد الهدوء إلى الحدود، لكنهم وجدوا أنفسهم مضطرين إلى تقليص الطموحات.
أوضح أحد الدبلوماسيين أن الولايات المتحدة "انتقلت من محاولة صناعة اتفاق أمني شامل إلى الاكتفاء بصفقة خفض تصعيد مؤقتة".
وأحاط الغموض مصير المفاوضات. تجاهلت وزارة الخارجية الأمريكية الرد على أسئلة الصحفيين. وامتنع مكتب نتنياهو عن تقديم تفاصيل.
وتمسكت دمشق بموقفها الرافض لأي ممر، وكررت أن السيادة خط أحمر. وغابت أي إشارة إلى موعد استئناف المحادثات، وارتفعت التكهنات حول انهيار كامل للمسار.
ولم يقتصر السجال على السياسة فقط؛ فقد لعبت الذاكرة التاريخية دورًا محوريًا. وأعادت دمشق التذكير بأن اتفاق 1974 صمد عقودًا، ورأت فيه إطارًا قابلًا للتطوير.
وقال الشرع في منتصف سبتمبر: "نستطيع التوقيع في أي لحظة، لكن المشكلة تبقى في التزام إسرائيل. المسألة مرهونة بالمرحلة التالية".
وأشعلت التطورات مواقف متباينة في الداخل السوري. عبّر مسؤولون حكوميون عن تفاؤل حذر قبل بدء الجمعية العامة، لكنهم اعترفوا بعد أيام بأن إسرائيل تماطل وتضغط. انقسمت القوى السياسية السورية بين من طالب بالمرونة لتجنب حرب جديدة، ومن دعا إلى الصمود ورفض أي تنازلات.
في المقابل، حرّكت إسرائيل أذرعها الإعلامية والسياسية لتصوير الملف كقضية إنسانية بحتة.
وتحدثت صحف عبرية عن "واجب أخلاقي لحماية الدروز"، وروّجت لخطاب إنساني يخفي الطموحات الجيوسياسية. دعمت واشنطن هذا الخطاب، بينما شككت موسكو وطهران في مصداقيته، وفقًا لصحيفة أراب ويكلي.
وبذلك تكون المنطقة على أعتاب مرحلة جديدة من التعقيد، أبرز سماتها: تجمّد المسار التفاوضي، وتحوّل من "صفقة أمنية شاملة" إلى مجرد "هدنة هشة".
يواصل الجانبان تبادل التصريحات واستمرار العدوان الإسرائيلي على المناطق السورية، بينما بقي ملف السويداء ورقة ضغط مؤجلة بانتظار توافقات إقليمية أوسع.