في ظل التحديات الجيوسياسية والاقتصادية التي تواجه التجارة العالمية، تتجه مصر نحو استراتيجية طموحة لتطوير قناة السويس، إذ تُولي الأولوية لبناء قدرات بحرية استثنائية بدلًا من التركيز فقط على تعافي حركة مرور الحاويات.
هذه القفزة النوعية تأتي كرد فعل على الاضطرابات المستمرة في البحر الأحمر، التي أدت إلى انخفاض كبير في حركة السفن، حيث يمر حاليًا 32 سفينة يوميًا مقارنة بـ75 سفينة قبل النزاعات.
ووفقًا لتوقعات حديثة، من المنتظر أن تعود الحركة تدريجيًا إلى طبيعتها بحلول نهاية مارس 2025، مع الوصول إلى التعافي الكامل بحلول منتصف العام، وفقًا لصحيفة "كونتينر نيوز"، شريطة هدوء النزاعات الإقليمية مثل وقف إطلاق النار في غزة. ومع ذلك، تتجاوز الرؤية المصرية هذا التعافي المؤقت، لتركز على تعزيز القدرات البحرية الطويلة الأمد لضمان دور القناة كشريان حيوي للتجارة الدولية.
وشهدت قناة السويس انخفاضًا حادًا في الإيرادات بنسبة 60%، مع توقعات خسائر تصل إلى 7 مليارات دولار للسنة المالية المنتهية في يونيو 2025. هذه الخسائر ناتجة عن الهجمات في البحر الأحمر، التي أجبرت خطوط الشحن الرئيسية على الالتفاف حول رأس الرجاء الصالح، مما يضيف ما يصل إلى 14 يومًا إضافيًا وتكاليف هائلة للرحلات.
مع ذلك، تُظهر الاستراتيجية المصرية تحولًا نحو الاستثمار في البنية التحتية المرنة. على سبيل المثال، أطلقت هيئة قناة السويس مشروع تطوير القطاع الجنوبي، الذي تم افتتاحه بالكامل في فبراير 2025، بهدف زيادة السلامة الملاحية وتقليل تأثير التيارات المائية والرياح، مما يرفع السعة اليومية إلى 85 سفينة مقارنة بـ50 حاليًا.
كما تشمل الجهود الراهنة تعزيز الخدمات البحرية مثل الإنقاذ البحري، الإسعاف البحري، ومكافحة التلوث، بالإضافة إلى توسيع الأقسام الضيقة وإنشاء قنوات موازية، كما في مشروع قناة السويس الجديدة الذي كلف 8.2 مليار دولار وانتهى في 2015، لاستيعاب سفن أكبر تصل إلى 220 ألف طن.
وفي سياق هذه التطورات، يبرز إنجاز ميناء شرق بورسعيد كدليل على نجاح الاستراتيجية المصرية. ووفقًا لتقرير البنك الدولي لأداء الموانئ والحاويات لعام 2024، احتل ميناء شرق بورسعيد المرتبة الثالثة عالميًا، متقدمًا من المركز العاشر في 2022، بفضل الإصلاحات الهيكلية والتوسعات المستمرة.
ويتوقع أن يزيد مشروع توسعة محطة حاويات قناة السويس القدرة السنوية بـ2.1 مليون حاوية، ليصل الإجمالي إلى 6.6 مليون وحدة مكافئة لعشرين قدمًا (TEU). هذا الإنجاز يعزز دور بورسعيد كمركز تجاري رئيسي، ويسهم في جذب الاستثمارات الأجنبية، خاصة في إطار المنطقة الاقتصادية لقناة السويس (SCZone)، التي تهدف إلى تطوير مدن القناة مثل السويس والإسماعيلية وبورسعيد لتعزيز التجارة الدولية.
كما أن هذا التقدم جعل بورسعيد يتفوق على موانئ أفريقية أخرى مثل طنجة المغربية، مما يعكس الجهود المصرية في الإصلاحات الهيكلية.
وتعزز آراء الخبراء هذه الاستراتيجية، حيث يرى الخبراء في مجال الشحن أن التركيز على القدرات الاستثنائية هو السبيل لمواجهة التحديات المستقبلية.
على سبيل المثال، أفاد استطلاع لشركة دراوري أن معظم المتخصصين في الصناعة يتوقعون عودة عبور السفن عبر السويس بحلول نهاية 2025، مع التحذير من قيود تجارية إضافية قد تعيد تشكيل الأسواق.
ويؤكد خبراء الشحن البحري أن هناك علامات على عودة الاستقرار إلى البحر الأحمر، وأن القناة جاهزة للعمل بطاقتها الكاملة مع عودة الخطوط الرئيسية. من جانبه، أشاد خبراء في منظمة الملاحة الدولية (IMO) بقيادة مصر في الشحن الأخضر، معتبرين أن قناة السويس يمكن أن تشكل مسارات تجارية مستدامة خارج حدودها، خاصة مع التحول نحو الشحن منخفض الكربون. كذلك، حذر خبراء في مجلس الأطلسي من أهمية أمن القناة للعالم، مشيرين إلى أن وقف الهجمات في بداية 2025 شجع الهيئة على دعوة خطوط الشحن للعودة.
أما منظمة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD)، فقد شددت على ضرورة التنسيق الدولي لتعزيز القدرات البحرية، محذرة من أن اضطرابات السويس وبنما تهدد الاقتصادات النامية بشكل أكبر.
وبالإضافة إلى ذلك، تتضمن الاستراتيجية تعزيز التعاون الدولي، مثل الدوريات البحرية المشتركة مع القوى الإقليمية والعالمية لمواجهة التهديدات، بالإضافة إلى الاستفادة من مبادرة "الحزام والطريق" الصينية لتعزيز التعاون البحري مع الصين. هذه الجهود تهدف إلى خفض تكاليف الشحن واستقرار سلاسل التوريد، مع الحفاظ على مساهمة القناة في التجارة العالمية، حيث تمر عبرها 12% من التجارة العالمية و30% من حركة الحاويات.
في النهاية، يعكس هذا النهج تحول مصر نحو قيادة مستدامة في التجارة البحرية، متجاوزًا التعافي المؤقت ليبني مستقبلًا مرنًا ضد الأزمات المستقبلية، مما يعزز دورها في ربط آسيا وأوروبا وخارجها، وفقًا لمجلة مودرن دبلوماسي.