أبعاد يحددها واقع "الأحداث والدستور الأمريكي"
أثارت الصور الأخيرة للرئيس الأميركي دونالد ترامب، البالغ من العمر 79 عامًا، عاصفة من الشكوك حول صحته ولياقته الجسدية لمواصلة مهامه. فخلال مراسم الذكرى الرابعة والعشرين لهجمات 11 سبتمبر، بدا وجهه مترهلًا ومتدليًا خصوصًا من جانبه الأيمن، مع ملامح ارتباك أثارت تساؤلات المراقبين والجمهور على حد سواء. سرعان ما انتشرت الصور ومقاطع الفيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، مرفقة بتعليقات تشكك في حالة الرئيس الصحية، حتى أن الكوميدي الأميركي جيرمي كابلويتز كتب ساخرًا: "هذا الرجل قد يكون أصيب بسكتة دماغية بنسبة 100 بالمئة"، وأرفق منشوره بصور الرئيس.

لكن ما بدأ كجدل ساخر تحوّل سريعًا إلى نقاش جاد: ماذا لو كان ترامب مريضًا بالفعل أو حتى توفي أثناء ولايته؟ من يتولّى السلطة في الولايات المتحدة؟ وهل يمكن أن تجد منافسته في انتخابات 2025، كامالا هاريس، نفسها في البيت الأبيض بشكل مفاجئ؟
بين الشائعة والحقيقة الطبية
لم يكن هذا الجدل الأول من نوعه. ففي يوليو الماضي، كشف البيت الأبيض أن الرئيس يعاني من "قصور وريدي مزمن"، وهي حالة تؤثر على تدفق الدم في أوردة الساقين وتسبّب تورمًا وأعراضًا أخرى. كما لُوحظ في مناسبات عديدة ظهور كدمات زرقاء متكررة على يديه، فسارعت المتحدثة باسم البيت الأبيض، كارولين ليفيت، إلى القول إن السبب "المصافحة المتكررة" واستخدامه لجرعات يومية من الأسبرين.
ورغم هذه الشائعات، حاول ترامب طمأنة مؤيديه، قائلًا في بداية سبتمبر: "لم أشعر في حياتي أنني بصحة أفضل مما أنا عليه الآن". إلا أن التصريحات وحدها لم توقف موجة التساؤلات، خصوصًا في ظل صور وفيديوهات رسمية بدا فيها متصلب الحركة ومرهق الملامح.
الدستور الأميركي وحتمية الخلافة
أمام هذا الواقع، يتجدد السؤال القديم: ماذا لو مات الرئيس أو أصبح عاجزًا عن أداء مهامه؟
الإجابة اليوم واضحة بفضل التعديل الخامس والعشرين للدستور الأميركي، الذي أُقرّ عام 1967 بعد سنوات من الارتباك والفراغ الدستوري في حالات مماثلة. ينص التعديل بوضوح في مادته الأولى على أنه "في حالة إزالة الرئيس من منصبه أو موته أو استقالته، يصبح نائب الرئيس رئيسًا". أي أن الخلافة لا تنتظر انتخابات جديدة ولا قرارًا من المحكمة أو الكونغرس: انتقال السلطة يتم بشكل مباشر وفوري إلى نائب الرئيس.

وإذا شغر منصب نائب الرئيس بعد تولّيه الرئاسة، يسمح القسم الثاني من التعديل للرئيس الجديد باختيار نائب جديد، شريطة أن يحظى بموافقة مجلسَي الكونغرس.
تاريخ مليء بالارتباك قبل التعديل
قبل هذا التعديل، كان المشهد أكثر غموضًا. فعندما توفي الرئيس وليام هنري هاريسون عام 1841 بعد شهر واحد فقط من تولّيه السلطة، تولّى نائبه جون تايلر المنصب، لكنه لم يكتفِ بإدارة شؤون البلاد بالوكالة، بل أدى القسم كرئيس كامل الصلاحيات. أثار هذا الإجراء جدلًا واسعًا داخل الكونغرس، لكنه رسّخ سابقة باتت تُعرف بـ "سابقة تايلر".
أما الرئيس وودرو ولسن، فقد أصيب بسكتة دماغية عام 1919 جعلته عاجزًا إلى حد كبير، لكن زوجته والطبيب الخاص أخفيا حالته، ما أبقى البلاد فعليًا تحت إدارة رئيس غير قادر. هذه الفوضى القانونية والسياسية دفعت لاحقًا إلى بلورة نصوص أوضح، وصولًا إلى التعديل الخامس والعشرين.
هل يمكن أن تتولى كامالا هاريس الحكم؟
الجدل الدائر في بعض وسائل الإعلام وعلى المنصات الاجتماعية يخلط بين الحقائق الدستورية والتوقعات السياسية. كامالا هاريس، بصفتها منافسة انتخابية لترامب في 2025، لا تملك أي حق قانوني في خلافة الرئيس الحالي إذا توفي أو عجز عن أداء مهامه. الخلافة محصورة فقط في نائب الرئيس الحالي، أو نائب الرئيس-المنتخب إذا كانت الوفاة حدثت بعد الانتخابات وقبل التنصيب.
بمعنى آخر: إذا مات ترامب غدًا وهو لا يزال في منصبه، فإن الحكم ينتقل مباشرة إلى نائبه، لا إلى منافسته الانتخابية. أما إذا فاز ترامب بولاية جديدة في انتخابات 2025 لكنه توفي قبل أدائه القسم، فإن نائبه-المنتخب هو من سيؤدي اليمين كرئيس، لا خصمه في السباق.
هكذا، يتضح أن الشائعات عن إمكانية تولّي هاريس الرئاسة "بالحظ" أو "بالصدفة" لا أساس لها من الناحية الدستورية، وإنما تعكس فقط رغبات سياسية لدى معارضيه.
السيناريوهات المحتملة
وفاة الرئيس أثناء ولايته: ينتقل المنصب فورًا إلى نائبه الحالي ،جوردان ديفيد فانس، الذي يؤدي اليمين الدستورية ويصبح رئيسًا حتى نهاية المدة.

وفاة الرئيس المنتخب قبل التنصيب: يتولى نائب الرئيس-المنتخب مهام الرئاسة عند حلول موعد اليمين.
عجز صحي مؤقت أو دائم: يمكن للرئيس نفسه أن يعلن عدم قدرته على أداء مهامه، فيتولى النائب السلطة مؤقتًا (القسم 3 من التعديل). أما إذا رفض الرئيس الاعتراف بعجزه، يمكن لنائبه وأغلبية الوزراء إعلان ذلك (القسم 4)، ما ينقل السلطة إلى النائب رغمًا عنه.
شغور مزدوج للرئاسة ونائبها: في هذا الوضع النادر، يُفعَّل "قانون تعاقب الرئاسة" الذي يضع المتحدث باسم مجلس النواب على رأس القائمة، يليه الرئيس المؤقت لمجلس الشيوخ ثم الوزراء وفق ترتيب محدد.
البعد السياسي والإعلامي
من الناحية العملية، الدستور الأميركي مصمم لمنع أي فراغ في السلطة. غير أن السياسة الأميركية شديدة القطبية تجعل من وفاة رئيس مثير للجدل مثل ترامب حدثًا مدويًا. فانتقال السلطة إلى نائبه قد يخفف من وقع الصدمة المؤسساتية، لكنه سيفتح بابًا واسعًا للجدل حول السياسات المستقبلية: هل يواصل الرئيس الجديد نهج ترامب؟ أم يضع بصمته الخاصة ويعيد تشكيل الإدارة؟
كما أن موت رئيس في أجواء انتخابية محتدمة سيُحدث ارتباكًا داخل حزبه، الذي سيضطر لإعادة ترتيب أوراقه وخوض معركة سياسية جديدة في مواجهة خصومه الديمقراطيين.
استنتاجات من واقع الأحداث والدستور
الشائعات عن مرض ترامب تفتح باب التكهنات، لكنها لا تغيّر الحقيقة الدستورية: الرئاسة الأميركية لا تنتقل بالانتخابات التكميلية ولا بالمنافسة، بل بالوراثة المؤسسية المباشرة عبر نائب الرئيس.
كامالا هاريس، مهما ارتفع رصيدها الانتخابي، لن تجد نفسها رئيسة إلا عبر صناديق الاقتراع، لا عبر وفاة خصمها.
الدستور الأميركي، بتعديلاته وقوانينه، أرسى آلية واضحة تحول دون الفراغ الرئاسي، لكن البعد السياسي والإعلامي يجعل من أي حادث صحي لرئيس قائم مادة خصبة للشائعات والانقسام.
وبينما يواصل ترامب التأكيد أنه "بصحة أفضل من أي وقت مضى"، تبقى أعين الأميركيين والعالم مسلطة على البيت الأبيض، مترقبة كل صورة وكل تصريح، وكأنها تنتظر إشارة خفية إلى مستقبل السلطة في الدولة الأقوى في العالم.