داخل دهاليز وخبايا التاريخ، أحيانًا تظهر نهايات لا تليق أبدًا بعظمة البدايات، شجرة الدر التي جلست على عرش مصر في لحظة فارقة في تاريخ مصر، سيدة القصر، وداهية من دواهي السياسة، يتم ضربها بالقباقيب حتى تلفظ أنفاسها الأخيرة، مشهد انتقام كله سخرية، مشهد معقد بين خلافات الحكم والسياسة وما بين غيرة النساء لحد الاغتيال، مقتل شجرة الدر يعتبر درسًا قاسيًا عن تقلبات الحياة، وكيف أن رمز القوة ممكن أن ينهزم بأهون الأشياء والأسباب.
هل فعلًا ماتت شجرة الدر بالقباقيب كما هو موجود في بعض كتب التاريخ؟
المصادر التاريخية القديمة نفسها تتعارض في وصف نهاية شجرة الدر، بعض المؤرخين مثل المقريزي وغيره حكوا أنها قتلت بعد ما قُبض عليها بأوامر زوجة المعز أيبك، وأن النسوة في القلعة هجموا عليها وضربوها بالقباقيب حتى الموت. لكن هناك مصادر أخرى مثل ابن إياس تشير أنها قتلت لكن لم يتم تحديد الأداة، ولهذا تبقى حكاية “قتل شجرة الدر بالقباقيب” أقرب لأسطورة رمزية تم تناقلها لإظهار مشهد نهايتها بطابع مهين وساخر، ليست واقعة مؤكدة مائة في المائة. ما نستطيع قوله أن شجرة الدر قتلت فعلًا سنة 1257م، لكن هل بالقباقيب تحديدًا؟ هذا أمر غير محسوم.
لكن شجرة الدر كانت عقلًا سياسيًا جبارًا وكانت تملك قلبا صلد، واستطاعت أن تقف أمام عواصف سياسية عنيفة، شجرة الدر التي خرجت من وراء أستار الحكم لتجلس على عرش مصر المحروسة، تمكنت أن تثبت أنه بالإرادة والوعي والمعرفة تستطيع كسر قيود النسب والعرق واللون والنوع، وأن المرأة تستطيع أن تكون ملكة وقائدة في وقت لم يكن يتصور أحد أن الحكم يليق بغير الرجال.
في لحظة صعبة وفارقة في تاريخ مصر يموت الملك الصالح أيوب وقت الحملة الصليبية السابعة على مصر المحروسة، وكانت مصر على أعتاب السقوط، لكن خلف جدران قصر الحكم، شجرة الدر أخذت قرارًا صعبًا لم يجرؤ عليه أحد، أخفت خبر موت الملك، واستطاعت أن تدير الحكم بذكاء، أعادت ترتيب الجيش، وقادت المماليك للحرب حتى تم أسر لويس التاسع ملك فرنسا في معركة المنصورة، وفي الحقيقة هذا لم يكن نصرًا عسكريًا وحسب، لكنه شهادة على أن امرأة استطاعت أن تنقذ مصر من الاحتلال والسقوط.
في زمن كان يتم النظر للمرأة على أنها جزء من الشكل الملكي، شكل للزينة والمتعة، خرجت شجرة الدر إلى مقدمة الحكم لتقود بنفسها دولة محاصرة بالأطماع والمؤامرات، كانت عقلًا منظمًا وواعيًا، عقلًا يزن الأمور بميزان الذهب، وعندما ارتفعت الأصوات حولها بالمعارضة والأطماع، لم تنكسر بسهولة، قاومت وصمدت حتى الرمق الأخير، وتترك لنا قصة امرأة تحدت العادات والتقاليد واقتحمت مجالًا كان حكرًا على الرجال فقط.
شجرة الدر كانت جميلة، ليست فقط في ملامح الوجه أو الجسد، لكن في الشجاعة والجرأة والصلابة أيضًا، وفي إيمانها أن المرأة يمكن أن تكون صانعة للأحداث وليست مجرد شاهدة عليها، تمكنت شجرة الدر أن تكتب اسمها وسط الملوك بحروف من نور، وقرارات صنعت فرقًا ومواقف قلبت موازين التاريخ.
وبالرغم من أن قدرها أن تكون نهاية حكايتها درامية مأساوية، لكن ذكرها باقٍ في التاريخ المكتوب وفي ذاكرة الناس على مر العصور، وأن القوة ليست حكرًا على الرجال، إذا امتلكت المرأة المعرفة والإرادة.
شجرة الدر، الجارية التي أصبحت ملكة، المرأة التي هزت عرش المماليك، ستبقى درسًا للتاريخ، أن عظمة الإنسان لا تُقاس بمكان ميلاده أو نسبه أو نوعه، وأن التاريخ لا يحفظ أسماء العظام اعتباطًا، بل يحتفظ باسم من يمتلك الجرأة لتغيير مجرى الحياة… ومن الممكن أن تكون امرأة.