على ضفاف النيل في أسيوط، تختلط رائحة الطين بصوت ضحكات الأطفال، وتتصاعد صيحات الشباب وهم يقفزون إلى المياه هربًا من حرارة لاهبة لا يخففها سوى حضن النهر.
هنا، في الوليدية، لا لافتات سياحية ولا بوابات فاخرة، بل مشهد شعبي عفوي صنعه الغلابة بأقدام حافية وقلوب مملوءة بالفرح.
مشهد يحول مجرى النهر إلى شاطئ مفتوح، ويكشف كيف يبتكر المصري البسيط سعادته من أبسط الأشياء.
النيل يتحول إلى مصيف شعبي في أسيوط
في الوقت الذي يقصد فيه البعض شواطئ المدن الساحلية بحثًا عن المتعة والراحة، يختار آخرون طريقًا أبسط وأقرب إلى قلوبهم، حيث يتحول نهر النيل بمنطقة الوليدية بمحافظة أسيوط إلى ما يشبه المصيف الشعبي أو "مصيف الغلابة"، الذي يجمع بين البساطة والعفوية، ويمثل المتنفس الوحيد للكثير من الأسر التي لا تستطيع تحمل تكاليف السفر أو دخول القرى السياحية.

رصيف خرساني يصبح مرسى للفرحة
مع بداية فصل الصيف وارتفاع درجات الحرارة، تتجه أنظار المئات من الشباب والأطفال نحو شاطئ النيل في الوليدية.
هناك، وعلى رصيف خرساني أشبه بمرسى صغير، يقف العشرات في انتظار لحظة القفز إلى المياه.
مشهد يختلط فيه ضحكات الصغار بأصوات اندفاع الموج البسيط الذي تثيره حركات السباحة الجماعية.
وعلى الضفاف، تنتشر عربات الكارو والتكاتك، وبجوارها بائعو المشروبات والوجبات البسيطة التي تضيف لمسة أخرى من الطابع الشعبي للمكان.
ضحكات الأطفال تطغى على حرارة الصيف
يقول محمود السيد، عامل بناء "أنا بشتغل طول الأسبوع تحت الشمس، ومش بقدر أسافر ولا أروح مصيف غالي.
يوم الجمعة باخد عيالي وأنزل على النيل هنا. المياه بتنَسّي الواحد تعبه، والأولاد بيلعبوا وفرحانين"، مضيفًا أن النيل بالنسبة له ولأسرته هو المصيف الحقيقي.

أهالي الوليدية: النيل هو المتنفس الوحيد
أما أحمد علي، سائق توك توك، فيرى أن المكان رغم بساطته إلا أنه يحمل قيمة كبيرة بالنسبة للأهالي "إحنا معندناش رفاهية نسافر إسكندرية ولا الغردقة.
النيل هنا قريب ومجاني، ومش محتاج غير إن الواحد يسيب همومه على البر وينزل يضحك مع أصحابه في المية".
غياب الرقابة يثير مخاوف الأسر
وعلى الجانب الآخر، يجلس عماد عبد التواب، موظف في شركة خاصة، يراقب أبناءه وهم يسبحون "أنا بسمح لهم ينزلوا المية، بس بخاف عليهم جدًا.
مفيش أي رقابة أو منقذين هنا، واللي بيغرق محدش بيلحقه غير الناس الغلابة زيهم.
نفسي يكون في إشراف أو حتى طوق نجاة عشان الأولاد يفرحوا من غير خوف".

الباعة الجائلون يكملون المشهد الشعبي
المشهد لا يقتصر على الشباب فقط، بل يمتد للأطفال الذين يسبحون بالقرب من الشاطئ، والنساء اللاتي يجلسن على الضفاف يراقبن أبناءهن.
ورغم ذلك، يظل الخطر حاضرًا، خاصة مع غياب أي مظاهر للسلامة أو التنظيم.
ويقول محمد عبد الله، تاجر خضار: "النيل بيجمعنا، بننزل بعد الشغل نرمي نفسنا في المية وننسى حرارة الجو.
بس ساعات بنشوف مصايب، في عيال بتغرق ومحدش بيلحقها.
نفسي الحكومة تبص للموضوع ده، وتعمل مكان آمن للناس الغلابة".
شهادة الغلابة: النيل يعوضنا عن المصايف الغالية
المكان يعكس صورة من صور التباين الاجتماعي في مصر.
فبينما تتزين شواطئ البحر الأحمر والمتوسط بالمنتجعات والقرى السياحية الفاخرة، يظل نهر النيل في أسيوط هو البديل الوحيد للأسر البسيطة، التي تبحث عن لحظة فرح وسط ظروف معيشية صعبة.
وعلى مقربة من الشاطئ، يقف حسن إبراهيم، نجار، وهو يتحدث بحماس "الوليدية بقت مصيف للناس كلها.
هنا بتلاقي العامل جنب الموظف جنب الطالب .. كلنا واحد .. يمكن المكان بسيط بس الفرحة اللي فيه متتعوضش".
مطالب بتدخل رسمي لحماية أرواح المواطنين
رغم العشوائية الظاهرة في المشهد، إلا أن "مصيف الوليدية" يعكس رغبة حقيقية لدى البسطاء في الاستمتاع بالحياة بأقل الإمكانيات، وتحويل النيل إلى شاطئ مجاني مفتوح للجميع.
فالنيل، كما يصفه بعض الأهالي، هو المتنفس الوحيد الذي لم يغلق أبوابه في وجه الغلابة.

بين الفرح والخطر .. الوليدية تتحول إلى شاطئ الغلابة
ويظل السؤال المطروح هل تلتفت الجهات المسؤولة لتطوير هذا المكان، وتوفير أبسط وسائل الأمان لمرتاديه، ليصبح شاطئًا شعبيًا منظمًا يحافظ على أرواح المواطنين؟
أم سيظل "مصيف الغلابة" كما هو، شاهدًا على صراع البسطاء مع حرارة الصيف وضيق الحال؟
النيل في الوليدية لم يعد مجرد مجرى مائي يروي الأرض والزرع، بل تحول إلى شريان حياة يروي أرواح البسطاء، ومسرح يومي يحكي قصة الفقر والفرح في آن واحد.
هنا، على ضفافه، تتجسد معادلة مصر الحقيقية شعب يعرف كيف يبتكر السعادة من لا شيء، لكنه لا يطلب إلا حقه في الأمان.
فإذا كان البحر له مصايفه الفاخرة، فإن النيل يصرخ من أعماقه ليقول أنقذوا فرحة الغلابة قبل أن يبتلعها الغرق.