منذ الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر 2001، دخل العالم مرحلة جديدة من التوترات الأمنية والسياسية، حيث شكّل ذلك اليوم لحظة فارقة في العلاقات الدولية وفي شكل التعاطي مع قضايا الإرهاب والتطرف. ورغم مرور أكثر من عقدين، لا تزال آثاره وتداعياته ماثلة حتى اليوم، ليس فقط في السياسة الأميركية أو في بنية النظام الدولي، بل في المجتمعات ذاتها التي باتت تعيش حالة استقطاب وانقسام غير مسبوقة.
لكن، وبعد كل هذه السنوات من "الحرب على الإرهاب"، يبدو أن المقاربات الأمنية والعسكرية وحدها لم تحقق النتائج المرجوة، بل ربما أسهمت أحيانًا في تفاقم الأزمة. وهو ما يفرض اليوم ضرورة تبني استراتيجيات جديدة تتجاوز منطق المواجهة المسلحة إلى مقاربة شاملة تعالج الأسباب الجذرية للتطرف وتبني ثقافة التسامح والحوار.
أولًا: فشل المقاربات التقليدية
منذ هجمات 11 سبتمبر 2001، تبنت الولايات المتحدة وحلفاؤها نهجًا أمنيًا صارمًا يقوم على الحرب المباشرة ضد الجماعات المتطرفة. فكانت البداية في أفغانستان، حيث استهدفت واشنطن حركة طالبان وتنظيم القاعدة، ثم امتد التدخل العسكري إلى العراق عام 2003، وصولًا إلى سوريا ومناطق أخرى في الشرق الأوسط. لكن، وبعد أكثر من عقدين من المواجهات المفتوحة، تكشّف أن هذه المقاربة العسكرية لم تحقق النتائج المرجوة، بل ساهمت في خلق واقع أكثر تعقيدًا وأشد اضطرابًا على المستويين الإقليمي والدولي.
فبدلًا من القضاء على التنظيمات المتطرفة، أسهمت الحروب الطويلة والعمليات العسكرية المتتالية في إعادة إنتاج هذه الظاهرة بشكل أكثر شراسة. فقد ظهرت تنظيمات جديدة أكثر تطرفًا وتنظيمًا، مثل داعش الذي استفاد من الفوضى في العراق وسوريا ليبني ما يشبه "دولة ظل" عابرة للحدود. وبذلك، تحولت ساحات الحرب إلى منصات مثالية لتجنيد المقاتلين وتعزيز خطاب الكراهية، بدلًا من أن تكون ساحات للقضاء على مصادر الخطر.
في الوقت ذاته، أدت السياسات الخاطئة في إدارة ما بعد الصراع إلى زيادة مشاعر المظلومية في مناطق النزاعات. ملايين المدنيين فقدوا منازلهم، وانتهكت حقوق الإنسان في عدد من البلدان تحت ذريعة مكافحة الإرهاب، ما ولّد شعورًا واسعًا بالاستهداف والتمييز. وقد استثمرت الجماعات المتطرفة هذه المظالم لترويج خطابها واستقطاب أتباع جدد، معتبرة أن "الحرب على الإرهاب" ما هي إلا حرب على المسلمين وثقافاتهم.
والأخطر من ذلك أن هذه السياسات أسهمت في تعميق الهوة بين الغرب والعالم الإسلامي. فتصاعدت موجات الكراهية المتبادلة، وتنامت النزعات الشعبوية في الغرب، مقابل انتشار سرديات الانتقام في الشرق. هذا الانقسام غذّى خطاب الجماعات المتطرفة، التي قدمت نفسها كـ"حامية للهوية" في مواجهة "عدو خارجي"، ما أدى إلى تكريس دوامة العنف وعدم الاستقرار. كل هذه الدروس تؤكد أن النهج العسكري وحده لا يكفي، وأن غياب المعالجة الفكرية والثقافية والسياسية العميقة للأزمة جعل جذور التطرف حاضرة وقابلة للتجدد في أي وقت.
ثانيًا: معالجة الأسباب الجذرية للتطرف
لم يعد التطرف ظاهرة يمكن تفسيرها من منظور أمني فقط، فهو يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالسياقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي تعيشها المجتمعات. فالجماعات المتشددة لم تظهر في فراغ، بل وجدت بيئات خصبة تغذي خطابها وتمنحها القدرة على الاستقطاب والتجنيد. ولذلك، فإن أي استراتيجية فعالة لمواجهة الإرهاب لا يمكن أن تكتفي بالمقاربات الأمنية، بل يجب أن تنطلق من فهم الأسباب العميقة التي تدفع الأفراد نحو تبني الفكر المتطرف.
أول هذه الأسباب هو الفقر والحرمان الاقتصادي، حيث يشكّل غياب العدالة الاجتماعية وتراجع فرص العمل بيئة مثالية لتنامي مشاعر الإحباط، خصوصًا بين فئة الشباب. فحين يجد الشاب نفسه محاصرًا بالبطالة وانعدام الأفق، يصبح أكثر عرضة للانجذاب إلى الخطابات المتطرفة التي تقدم له وعودًا زائفة بالخلاص أو العدالة. وقد استثمرت العديد من التنظيمات الإرهابية هذه الثغرة، مقدّمة نفسها كبديل اقتصادي واجتماعي، سواء عبر الإغراءات المالية أو عبر خطاب "تمكين المهمشين".
إلى جانب ذلك، يلعب الاستبداد السياسي وغياب الحريات دورًا محوريًا في إنتاج بيئات حاضنة للتطرف. فالقمع المستمر وانسداد قنوات المشاركة السياسية يولّدان شعورًا عميقًا باللاجدوى واليأس، وهو ما تستثمره الجماعات المتشددة لتقديم نفسها كصوت معارض لـ"الأنظمة الظالمة". وفي العديد من الحالات، أسهمت السياسات السلطوية في دفع الشباب نحو أحضان التنظيمات المتطرفة التي تدّعي تمثيل "العدالة" و"الحرية"، بينما هي في الواقع تعيد إنتاج أنماط أكثر قسوة من العنف والاستبداد.
ولا يمكن تجاهل دور فشل أنظمة التعليم والخطاب الديني المغلق في تغذية هذه الظاهرة. ففي غياب مناهج تعليمية تعزز قيم التعددية والتفكير النقدي، يظل الشباب عرضة لتلقي سرديات متطرفة لا تقبل التنوع والاختلاف. كما أن استغلال بعض التيارات السياسية للدين في تمرير أيديولوجياتها جعل من الخطاب الديني أداة للتعبئة والتحريض، بدلًا من أن يكون جسرًا للتسامح والتعايش. إن مواجهة هذه التحديات تتطلب سياسات وقائية شاملة، تقوم على الاستثمار في التعليم، وتحديث المناهج، وبناء منظومة عدالة اجتماعية، وفتح مسارات حقيقية للمشاركة السياسية، حتى نمنع التطرف من جذوره قبل أن يتحول إلى خطر أمني يهدد استقرار الدول والمجتمعات.
ثالثًا: تعزيز التسامح والحوار
يستند التطرف في جوهره إلى التأويلات الضيقة للنصوص وبناء سرديات تقوم على شيطنة الآخر المختلف دينيًا أو ثقافيًا أو فكريًا. لذلك، فإن المواجهة الفكرية الحقيقية لا يمكن أن تقوم على القمع أو التهميش، بل على فتح مساحات أوسع للحوار، وإعادة بناء جسور التواصل بين الأديان والثقافات والمجتمعات المختلفة. فالحوار هنا ليس ترفًا فكريًا، بل ضرورة استراتيجية لمواجهة الأيديولوجيات التي تغذي العنف والانقسام.
ويُعد تجديد الخطاب الديني أحد أهم ركائز هذه المواجهة الفكرية. فبدلًا من احتكار التفسير أو فرض قراءة واحدة للنصوص، يصبح من الضروري تقديم قراءات معاصرة ومنفتحة تعكس روح الدين ومقاصده الحقيقية في تعزيز الرحمة والعدل والتعايش. هذا التجديد لا يعني التخلي عن الثوابت، بل الخروج من أسر التوظيف السياسي للدين، وتحريره من الخطابات الأيديولوجية التي تستخدمه لتبرير العنف أو تقسيم المجتمعات على أسس طائفية ومذهبية.
كما يلعب الإعلام المستقل والمسؤول دورًا محوريًا في بناء ثقافة التسامح، من خلال كشف خطابات الكراهية والتضليل التي تروّجها الجماعات المتطرفة عبر المنصات التقليدية والرقمية. فالإعلام ليس مجرد أداة لنقل الأخبار، بل سلاح فكري قادر على تفكيك الروايات المتطرفة وتقديم بدائل معرفية أكثر اتزانًا. وفي المقابل، فإن إهمال دور الإعلام وتركه في مواجهة تيارات العنف وحده يمنح الجماعات المتشددة مساحات أوسع للتأثير على الرأي العام، خصوصًا في المجتمعات الأكثر هشاشة معرفيًا.
وأخيرًا، يظل تمكين الشباب من أدوات التفكير النقدي ومهارات المواطنة الرقمية أحد أهم المفاتيح في بناء مجتمعات أكثر تسامحًا. فالجماعات المتطرفة تدرك جيدًا أن الفضاء السيبراني أصبح ساحة رئيسية للتجنيد والدعاية، لذلك تسعى لاحتلاله بخطابات مغلقة تبث الخوف والكراهية. مواجهة هذا التحدي تتطلب الاستثمار في تعليم الشباب كيفية التحقق من المعلومات، وفهم آليات الدعاية الرقمية، وتعزيز وعيهم بقيم التنوع والمواطنة. فالتسامح لا يعني ذوبان الهويات أو محو الفوارق، بل الاعتراف بالاختلاف كقيمة أصيلة، وبأن التنوع هو أساس التعايش الإنساني وبناء السلام المستدام.
رابعًا: نحو رؤية جديدة للأمن العالمي
أفرزت مرحلة ما بعد هجمات 11 سبتمبر واقعًا جديدًا فرض على العالم إعادة التفكير في مفهوم الأمن الدولي. فلم يعد ممكنًا التعامل مع التهديدات المعاصرة من منظور عسكري تقليدي قائم على المواجهة المسلحة وحدها، إذ أثبتت التجربة أن استخدام القوة الصلبة، مهما بلغت شدتها، لا ينجح في القضاء على جذور التطرف. ومع تنامي الظواهر العابرة للحدود مثل الإرهاب السيبراني والتجنيد الرقمي والهجرة غير النظامية، أصبح لزامًا تبني رؤية شاملة للأمن تتجاوز المنظور العسكري نحو مفهوم أكثر تكاملًا يأخذ في الاعتبار العوامل الفكرية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
يأتي في مقدمة هذه الرؤية الجديدة مفهوم الأمن الفكري، الذي يقوم على مواجهة الأيديولوجيات المتطرفة عبر إنتاج بدائل معرفية جاذبة ومقنعة، بدلًا من الاكتفاء بردود أفعال أمنية متفرقة. فالجماعات المتشددة تملأ فراغات الوعي بخطاباتها المبسطة التي تقدم حلولًا زائفة للشباب، بينما لا يجد هؤلاء بدائل فكرية قوية ومؤثرة. لذا، يصبح من الضروري الاستثمار في مشاريع فكرية وإعلامية وتعليمية تعزز قيم التسامح والاعتدال، وتقدم سرديات بديلة تنافس روايات العنف على الأرض والفضاء الرقمي.
إلى جانب ذلك، لا يمكن تجاهل دور الأمن التنموي في تحقيق الاستقرار العالمي. فالتطرف غالبًا ما يجد جذوره في الفقر والتهميش وانعدام العدالة الاقتصادية، حيث يصبح الإحباط مدخلًا رئيسيًا لتجنيد الأفراد في الجماعات العنيفة. إن ضمان حد أدنى من العدالة في توزيع الفرص والموارد، وتعزيز التنمية المستدامة في المجتمعات الهشة، يمثل حجر الأساس لبناء مجتمعات أقل عرضة للاستقطاب من قبل التنظيمات الإرهابية. التنمية هنا ليست رفاهية، بل شرط أساسي لتعزيز السلم الأهلي ومنع عودة دوامات العنف.
وأخيرًا، يبرز مفهوم الأمن الرقمي بوصفه أحد أعمدة الأمن العالمي الجديد. فبعد 11 سبتمبر، تغيّر مسرح المواجهة بشكل جذري، حيث أصبحت الفضاءات السيبرانية منصة رئيسية للجماعات المتطرفة لتجنيد الأتباع ونشر الدعاية والتخطيط لعمليات إرهابية عابرة للحدود. مواجهة هذا التهديد تتطلب تعاونًا دوليًا لتطوير أدوات تكنولوجية متقدمة، ومراقبة آليات الاستقطاب عبر الإنترنت، وتعزيز مهارات المواطنة الرقمية لدى الأجيال الجديدة. إن الاستثمار في الإنسان قبل السلاح، وفي المعرفة قبل القوة، هو خط الدفاع الأول في مواجهة موجات التطرف المقبلة، وصمام الأمان لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وتوازنًا.
خاتمة
بعد أكثر من عقدين على هجمات 11 سبتمبر، أدرك العالم أن المقاربة الأمنية وحدها غير كافية، وأن الحرب على الإرهاب لا يمكن أن تُكسب بالأسلحة فقط، بل بالعقول والقلوب. المطلوب اليوم هو انتقال نوعي من منطق الردع إلى منطق الوقاية، ومن سياسة المواجهة إلى استراتيجية بناء ثقافة السلام.
فمستقبل العالم لن يُرسم في ميادين القتال، بل في قاعات التعليم، ومنابر الحوار، وفضاءات التفاهم الإنساني. إن مواجهة التطرف تبدأ من معالجة جذوره، وبناء بيئات حاضنة للتسامح، قبل أن نواجه نتائجه في ساحات العنف.