تحيي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، اليوم الأحد، ذكرى رحيل القديس البابا مكاريوس الثالث البطريرك الرابع عشر بعد المائة، الذي رحل في مثل هذا اليوم ٣١ أغسطس ١٩٤٥م (١٦٦١ ش)، بعد أن جلس على الكرسي المرقسي لمدة سنة واحدة وستة أشهر وتسعة عشر يومًا، قضاها في خدمة الكنيسة والدفاع عن قوانينها، وسط أحداث صعبة ومؤلمة.
نشأة تقية وزهد مبكر
ولد البابا مكاريوس الثالث في مدينة المحلة الكبرى في ١٨ فبراير ١٨٧٢م، وسط أسرة تقية عُرفت باسم “أسرة القسيس”. منذ صباه كان زاهدًا، محبًا للوحدة، وحافظًا للألحان الكنسية. وفي سن السادسة عشرة ترك العالم وقصد دير القديس أنبا بيشوي عام ١٨٨٨م، حيث ترهب باسم الراهب عبد المسيح. تميز بالنسك ودراسة الكتاب المقدس، وإتقان الخطوط القبطية والعربية وفنون الزخرفة، حتى ذاعت سمعته بين الرهبان.
من دير البراموس إلى مطران أسيوط
بعد سيامته قسًا، التحق عام ١٨٩٥م بدير البراموس، حيث سامه البابا كيرلس الخامس قمصًا وكاتمًا لأسراره، وأسند إليه التدريس في مدرسة الرهبان. ورغم نية البابا أن يقيمه مطرانًا للقاهرة، اختاره شعب أسيوط ليكون مطرانًا لهم بعد رحيل أسقفهم، فاستجاب البابا لطلبهم. سيم مطرانًا لأسيوط في ١١ يوليو ١٨٩٧م باسم “مكاريوس”، وهو لم يتجاوز الرابعة والعشرين من عمره. نجح في قيادة الإيبارشية بحكمة، وجمع شمل الشعب، وحافظ على وحدة الكنيسة، وعُرف بمبادراته الإصلاحية، منها عقد مؤتمر قبطي كبير في أسيوط عام ١٩١٠م، وتقديم مطالب إصلاحية للمجمع المقدس عام ١٩٢٠م.
بطريرك على الكرسي المرقسي
بعد رحيل البابا يؤنس التاسع عشر، اعتلى الأنبا مكاريوس الكرسي المرقسي في ١٣ فبراير ١٩٤٤م، بطريركًا رقم ١١٤ للكنيسة القبطية الأرثوذكسية. ومنذ بداية بطريركيته أصدر وثيقة إصلاحية مهمة تخص الأديرة وترقية حياة الرهبان، وهو ما تسبب في خلافات واسعة بين المجمع المقدس والمجلس الملي.
مواقف إصلاحية حاسمة
واجه البابا مكاريوس الثالث أزمات كبرى مع المجلس الملي العام، خاصة فيما يخص قانون الأحوال الشخصية للطوائف غير الإسلامية، إذ اعتبره المجمع المقدس مخالفًا للتقليد الكنسي ويمس سرّي الزواج والكهنوت ورغم الضغوط، دافع البابا بقوة عن قوانين الكنيسة، ورفع اعتراضات رسمية إلى وزارة العدل ومجلسي الشيوخ والنواب. ورغم الانقسامات، أصدر المجمع المقدس في أول يناير ١٩٤٥م قرارات إصلاحية مهمة، أبرزها: قصر الطلاق على علة الزنا، تنظيم انتخاب البطريرك، وإنشاء معاهد لاهوتية، وتبادل البعثات الكنسية مع إثيوبيا.
رحيل وسط أحداث مهيبة
عانى البابا من ضعف شديد في أيامه الأخيرة، ورقد بسلام صباح الجمعة ٣١ أغسطس ١٩٤٥م، بعد رحلة قصيرة على الكرسي المرقسي لكنها حافلة بالمواقف القوية. شيّع الشعب جثمانه الطاهر يوم الأحد ٢ سبتمبر في جنازة مهيبة، ودُفن مع جسد البطاركة السابقين. وتصادف وقت دفنه وقوع زلزلة شعر بها الجميع، فاعتبرها المؤمنون مشاركة الطبيعة في الحزن على انتقاله.
إرث خالد
رغم قِصر مدة جلوسه على الكرسي المرقسي، ترك البابا مكاريوس الثالث بصمة واضحة في تاريخ الكنيسة، بغيرته على نقاوة الإيمان ودفاعه عن قوانين الكنيسة وسرّية أسرارها، واهتمامه بالإصلاح والرهبنة والتعليم. ولا تزال الكنيسة تتذكره كأب حازم ومصلح غيور، وأحد أعمدة البطاركة الذين دافعوا عن كيان الكنيسة وسط عواصف القرن العشرين.