في زمنٍ يتسابق فيه الخبر العابر مع صور الدماء والدموع، تبقى لحظة الإنصات إلى صوتٍ إنساني شاهِد على الألم أهم من عشرات التصريحات الجافة، فالقضية الفلسطينية، بما تحمله من أبعاد سياسية وحقوقية، لم تعد مجرد عناوين في نشرات الأخبار، بل باتت رواية حيّة يرويها من يعيشونها كل يوم، تحت وطأة الاحتلال والاعتقال والتشريد.
وفي خضمّ هذه الأجواء المشحونة بالقهر والقلق، كان لنا في مصر تايمز لقاء خاص مع السيدة فدوى البرغوثي، زوجة الأسير مروان البرغوثي، وأم القسّام. لم يكن الطريق إلى هذا الحوار ممهّدًا؛ فبين الضغوط النفسية التي تعيشها العائلة، وبين الارتباك الأمني والسياسي الذي يخيّم على رام الله في هذه اللحظة الدقيقة، بدا من الصعب أن تفتح قلبها للحديث، ومع ذلك، وبقدر ما أرهقها ثِقل الغياب وقسوة الأخبار المتلاحقة، فقد منحتنا بصبرها وقوة إرادتها بعض التصريحات التي تعكس عمق المعاناة، ولكنها تكشف في الوقت ذاته عن عزيمة لا تنكسر.
لقد التقينا بها وهي محاطة بالأسئلة المؤلمة، عن مصير زوجها الذي تجاوز سجنه عقدين من الزمن، وعن محاولة الاحتلال المتكررة لكسر إرادته، وعن مستقبل قضيةٍ ترى فيها صورة فلسطين كلها. وبرغم أن الكلمات جاءت في ظلّ ظروف خانقة، إلا أنّها حملت مزيجًا نادرًا من القوة والألم، من الانكسار الخارجي والصمود الداخلي، لتؤكد أن قضية الأسرى ليست فقط قضية أشخاص، بل قضية شعب بأسره يرفض الاستسلام.
كيف كان شعوركِ حين شاهدتِ وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتمار بن غفير يقتحم زنزانة مروان البرغوثي وما الرسائل التي أراد إيصالها من وراء هذه الخطوة؟
للوهلة الأولى، لم أتعرّف على أبو القسام، وربّما مرد ذلك أن جزء مني كان يرفض التصديق بأنه هو بالفعل، أنا لم ألتقِ معه منذ 3 سنوات على الأقل، لقد تأكدت بعد التدقيق أن الشخص الذي يظهر في المقطع المصور هو بالفعل، أدركتُ بالفعل حينها كم فعلت سنتين من التعذيب والتجويع والعزل والملاحقة لمروان داخل الزنازين.
ولكي أكون صادقة، فإن هناك مشاعر خوف حقيقية عليه، ونحن نخشى بالفعل على حياته، فقد تعرّض لثلاثة اعتداءات منذ 7 أكتوبر وهذا الاقتحام السافر لزنزانته ومحاولة استعراض القوة من قِبَل هذا المتطرّف الفاشي يشي بأن هناك قرار سياسي بملاحقته واستهدافه استمرارًا لاستهداف القضية ورموزها، في ضوء حالة الصمت والعجز الدولي إزاء الإبادة التي تنفذها دولة الاحتلال بحق الفلسطينيين وتحديدًا في قطاع غزة منذ قرابة العامين.
في الحقيقة، ليس لدي أي علم بما حدث داخل الزنزانة خلال الاقتحام. المناضل أبو القسام كسائر الأسيرات والأسرى محروم من زيارة العائلة منذ 7 أكتوبر، ويتم السماح للمحامي بزيارته كل 3- 4 أشهر مرة واحدة ولبضع دقائق فقط لا تكفي للاطمئنان عليه.
لكن هذا الاقتحام والمطاردة داخل زنازين العزل الانفرادي له هي رسالة تهديد مباشرة لحياته وسلامته حتى داخل الزنزانة، وهي تأتي ضمن مساعي الاحتلال لتصفية القضية الفلسطينية ورموزها، لكن ما أغفله الاحتلال هو أن محاولات تغييب أبو القسام وإخماد صوته طيلة السنوات الماضية بائت بالفشل وقابلها شعبنا الوفي بالالتفاف حول أبو القسام القائد والرمز، لما يمثّل أمل كبير لشعبنا في كل أنحاء تواجده. إن حالة الالتفاف حول مروان الفكرة والمشروع والقيادي هي استفتاء لشرعية النضال الفلسطيني التحرري من الاحتلال.

هناك من يطلق على مروان لقب "مانديلا فلسطين"، برأيكِ ماذا يمثّل هذا التشبيه في الوعي الفلسطيني والعالمي؟
نعم صحيح، إن هذا التشبيه مستوحى من تشابه التجربة بين المناضل نيسلون مانديلا الذي قاد المؤتمر الوطني في مواجهة نظام الفصل العنصري بعد خروجه من الأسر، وترأس لاحقًا دولة جنوب إفريقيا ليتحول لأمل كبير للمقهورين الذين آمن بقضيتهم وشاركهم معاناتهم وضحى لأجلهم بحيث أصبح اسمه مرتبط بتفكيك نظام الفصل العنصري، وبين المناضل مروان البرغوثي الذي يقضي حكمًا طويلاً بالسجن المؤبد وقد أمضى حتى الآن نحو 50 عام في النضال من أجل حرية شعبه بين السجن والمطاردة والإبعاد، وهو الشخصية التي تشكّل أملاً كبيرًا للفلسطينيين في الوحدة وقيادة حركة التحرر نحو العودة والاستقلال.
في حال تحرر أبو القسام (مروان البرغوثي) اليوم ما الدور الذي يمكن أن يلعبه في توحيد الصف الفلسطيني وإعادة رسم المشهد السياسي؟
أبو القسام يؤمن بالوحدة قولاً وفعلاً، لذلك هو صاحب مقولة "شركاء في الدم شركاء في القرار"، و"الوحدة الوطنية قانون الانتصار للشعوب المقهورة والمجتمعات وحركات التحرر الوطني". لقد شكّل المناضل مروان طيلة حياته النضالية رمزًا للوحدة والتلاحم وقدم نموذجًا مُلهمًا في الوحدة حتى من داخل زنزانته بالمبادرة إلى وثيقة الأسرى للوفاق الوطني وهندستها، وهي الوثيقة الوحيدة التي حصلت على إجماع الكل الفصائلي الوطني وتحولت لمرجعية لاتفاقيات المصالحة، لذلك، يعقد شعبنا اليوم أمل كبير على أبو القسام في تحقيق الوحدة، وتوحيد الصف الفلسطيني تحت مشروع وطني سياسي جامع يُعبّر عن طموح وتطلّعات وآمال شعبنا في الحرية والعودة والاستقلال، وهو ما من شأنه طيّ صفحة الانقسام الكارثية التي لا تخدم سوى الاحتلال ومشاريعه التصفوية.

ما الرسالة التي توجهينها شخصيا لبن غفير بعد هذه الخطوة الاستفزازية؟
أعتقد أن الرسالة وصلت لكل من كان يراهن على إخماد صوت أبو القسام طيلة السنوات الماضية وهو في زنزانته الضيفة، حيث طغى غيابه على كل الحضور، وقد مثّلت مواقف الالتفاف حول القائد مروان البرغوثي وحالة الإجماع على شخصه ورمزيته وما يمثّله من برنامج سياسي ووطني جامع ووحدي أقوى رسالة للرد على كل محاولات استهدافه أو النيل منه ومن عزيمته.
شعبنا يعرف أبو القسام جيدًا، ويعرف أنه منهم ولهم ويشاطرهم المعاناة والألم، لذلك عبّر عن موقفه بشكلٍ علني وواضح، وهذا ما يجعل المناضل أبو القسام أقوى، فهو يستمد عزيمته وقوته وصموده من قوة شعبه ووحدته وصموده.
في ختام هذا الحوار، يظل صوت فدوى البرغوثي شاهدا على أن الأسر لا يقيد الروح، وأن الغياب لا يلغي الحضور، مروان باقٍ في قلوب محبيه، كجذوة أمل ترفض أن تنطفئ، ومع كل كلمة نطقَت بها، بدا أن القضية الفلسطينية لا تختصر في ألم، بل تنبض بإصرار وحياة، تنتظر لحظة الانتصار.
يبقى مروان البرغوثي، خلف قضبان السجون، رمزًا تتجاوز سيرته حدود الزنزانة الضيقة لتلامس وجدان كل فلسطيني وعربي يؤمن بالحرية، وما بين كلمات زوجته فدوى البرغوثي وصمودها في وجه الألم، تتجدد القناعة بأن القضية ليست حكاية أسير واحد، بل قصة شعب بأكمله، لا يزال يقاوم ويؤمن بأن الفجر آتٍ مهما طال ليل الاحتلال.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.