لطالما حذرت المنظمات الصحية العالمية من مخاطر الإفراط في تناول الملح، لكن دراسات حديثة بدأت تلقي الضوء على الطرف الآخر من مخاطر نقصه، والسؤال: كيف يمكن لمادة حيوية مثل الصوديوم، التي لا تعمل الأعصاب ولا يتوازن الجسم بدونها، أن تكون سلاحاً ذا حدين؟
الصوديوم هو العنصر الأساسي في تركيب الملح، ليس مجرد مادة لتعزيز النكهة، بل هو حجر زاوية في وظائف الجسم الحيوية. فهو المسؤول الرئيسي عن الحفاظ على توازن السوائل، ونقل المغذيات والأكسجين، وتوصيل النبضات العصبية بين الخلايا. بدون كمية كافية من الصوديوم، تتعطل هذه العمليات الأساسية.
الإفراط.. وباء العصر
رغم هذه الأهمية، ظل التركيز الصحي منصباً على مخاطر الإفراط. توصي منظمة الصحة العالمية بألا يتجاوز الاستهلاك اليومي للفرد 5 غرامات من الملح (ما يعادل ملعقة صغيرة)، لكن الواقع يفوق ذلك بكثير.
في المملكة المتحدة، يستهلك الفرد حوالي 8 جرامات يومياً، وفي الولايات المتحدة 8.5 جرامات، بينما المصدر الخفي لا يكمن في "الملّاحة" التي على المائدة، بل في الأطعمة المصنعة. ما يقرب من 75% من ملحنا اليومي يأتي من مصادر خفية: الخبز، الجبن، المرق، اللحوم المعالجة، وحتى الحلويات والبسكويت. حتى قطعة حلوى مثلجة قد تحتوي على غرام كامل من الملح.
والشركات المصنعة غالباً ما تذكر محتوى "الصوديوم" وليس "الملح" على الملصقات الغذائية، مما يربك المستهلك. كل 2.5 غرام من الملح تحتوي على 1 غرام من الصوديوم. هذه الحيلة التسويقية تجعل الناس يستهلكون أكثر دون أن يدروا.
العلاقة الخطرة مع ضغط الدم
الأدلة على ضرر الإفراط في الملح قوية ومتراكمة، حيث يتسبب الصوديوم الزائد في احتباس الماء بالجسم، مما يزيد حجم الدم ويضع ضغطاً إضافياً على جدران الشرايين، مؤدياً إلى ارتفاع ضغط الدم. بمرور الوقت، يتسبب هذا الضغط المستمر في إتلاف الشرايين ويصبح عامل خطر رئيسياً لأمراض قاتلة.
ووفقاً لإحصائيات منظمة الصحة العالمية، يساهم ارتفاع ضغط الدم الناتج عن الإفراط في الملح في:
· 62% من جميع حالات السكتة الدماغية.
· 49% من أمراض الشرايين التاجية.
ويشير تحليل شامل لـ 13 دراسة على مدى 35 عاماً وجد أن تناول 5 جرامات إضافية من الملح يومياً يرفع خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية بنسبة 17%، والسكتات الدماغية بنسبة 23%.
هل يمكن أن يكون القليل خطيراً؟
في مواجهة هذه التحذيرات، برزت أبحاث تشير إلى إلى أن انخفاض استهلاك الملح بشدة قد يرتبط أيضاً بمخاطر صحية، خاصة بعض الدراسات القائمة على الملاحظة ربطت بين الاستهلاك المنخفض جداً (أقل من 5.5 غرام يومياً) وزيادة في بعض مؤشرات أمراض القلب.
لكن الخبراء يحذرون من تفسير هذه النتائج على أنها ترخيص للإفراط. البروفيسور فرانسيسكو كابوتشيو، أستاذ أمراض القلب والأوعية الدموية بجامعة ووريك، يوضح أن هذه الدراسات غالباً ما تكون معيبة منهجياً.
و إحدى المشكلات الكبرى هي قياس تناول الملح من خلال عينة بول واحدة صباحية، وهي طريقة غير دقيقة مقارنة بتحليل البول على مدار 24 ساعة، وعلاوة على ذلك، قد يعاني الأفراد في هذه الدراسات الذين يتناولون كميات قليلة من الملح من أمراض كامنة تسبب فقدان الشهية أو انخفاض الاستهلاك، وليس العكس.
ويشدد كابوتشيو على أنه "لا توجد تجارب عشوائية كافية حول تأثير الملح المباشر، لكن هذا ينطبق أيضاً على التدخين والسمنة، وهي أمور ثبت ضررها بشكل قاطع".
التوازن هو المفتاح والصناعة عليها الدور الأكبر
الإجماع العلمي السائد حتى الآن يؤكد أن مخاطر الإفراط في الملح حقيقية ومثبتة، بينما أدلة نقصه لا تزال ضعيفة وغير حاسمة. السؤال الحقيقي ليس "هل نتخلص من الملح تماماً؟" بل "كيف نوازن استهلاكه؟".
سارة ستانر، المديرة العلمية في المؤسسة الخيرية البريطانية للتغذية، في تقرير لـ"بي بي سي" توضح أن النقطة المحورية هي إصلاح الصناعة الغذائية. "من النادر أن يستهلك شخص ما 3 غرامات فقط من الملح يومياً، لأن طعامنا المعاصر مليء به دون أن نضيفه بأنفسنا. الأولوية هي خفض مستويات الملح في الأغذية المصنعة".
وتشير إلى أن اتباع نظام غذائي غني بالبوتاسيوم (الموجود في الفواكه، الخضروات، المكسرات ومنتجات الألبان) يمكن أن يساعد في مواجهة الآثار الضارة للصوديوم على ضغط الدم.
أما سيلفيو ماتيو، محاضر في اقتصاد الصحة بجامعة لانكاستر، فيلخص الأمر بقوله: "ربما ترتبط المشكلات بكل من الإفراط والنقص، لكن الأبحاث الحالية تؤكد أن الإفراط هو الخطر الأكبر والأوضح. يجب أن تركز السياسة العامة على التوعية بالملح المخفي في الطعام، ودفع الشركات لتقليله، من أجل تجنبه كلياً، فهذا غير عملي وقد يكون ضاراً".
