برزت أهمية الذكاء الاصطناعي بعدما تزايدت في السنوات الأخيرة الحاجة إلى أدوات وتقنيات تساعد في تقييم الأثر البيئي للمشروعات بشكل أكثر دقة وموضوعية، خاصة مع تفاقم التحديات البيئية العالمية مثل تغيّر المناخ، وفقدان التنوع البيولوجي، وتدهور الموارد الطبيعية.
وتقليديًا، كان تقييم الأثر البيئي يعتمد بشكل كبير على الخبراء الميدانيين، والدراسات الميدانية، والنماذج الإحصائية التقليدية.
إلّا أن هذه الطرق على الرغم من أهميتها قد تكون بطيئة، ومكلفة، وأحيانًا محدودة الدقة، بسبب صعوبة التعامل مع كميات ضخمة من البيانات البيئية.
وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي (AI) الذي يقدّم حلولًا مبتكرة قادرة على تحليل البيانات الضخمة، والتنبؤ بالنتائج المحتملة، وتقديم توصيات دقيقة ومرنة تساعد صنّاع القرار في تقليل الآثار السلبية للمشروعات قس البيئة.
مفهوم تقييم الأثر البيئي
تقييم الأثر البيئي (Environmental Impact Assessment - EIA) هو عملية تهدف إلى تحديد وتحليل وتقدير التأثيرات المحتملة لأيّ مشروع أو نشاط إنشائي أو صناعي على البيئة.
الهدف من هذه العملية هو ضمان تنفيذ التنمية الاقتصادية مع مراعاة الاستدامة البيئية، بحيث لا تؤدي الأنشطة الاقتصادية إلى أضرار جسيمة تصعب معالجتها.
- تشمل هذه العملية دراسة عدّة عناصر، مثل:
- جودة الهواء والماء.
- التربة واستعمال الأراضي.
- التنوع البيولوجي والنظم البيئية.
- الموارد الطبيعية المتجددة وغير المتجددة.
- التأثيرات الاجتماعية والاقتصادية المرتبطة بالبيئة.
كيف يمكن للذكاء الاصطناعي الإسهام في تقييم الأثر البيئي؟
1. تحليل البيانات البيئية الضخمة:
المشروعات الكبرى تولّد كميات هائلة من البيانات البيئية مثل بيانات الطقس، وجودة الهواء، ومستويات التلوث المائي، وأنماط التنقل البشري، أو حتى صور الأقمار الصناعية.
يمكن الذكاء الاصطناعي وتقنيات التعلم الآلي (Machine Learning) والتعلم العميق (Deep Learning) معالجة هذه البيانات بسرعة ودقة، واستخراج أنماط وعلاقات يصعب على الإنسان إدراكها.
2. التنبؤ بالآثار المستقبلية:
من أهم التحديات في تقييم الأثر البيئي هو القدرة على التنبؤ بالتأثيرات طويلة المدى. على سبيل المثال، كيف سيؤثّر مشروع بناء سد في التنوع البيولوجي بعد عشرين عامًا.
باستعمال نماذج الذكاء الاصطناعي، يمكن إدخال بيانات قديمة وبيانات حالية لتقدير السيناريوهات المستقبلية بدقة أكبر، مما يساعد في اتخاذ قرارات أكثر استنارة.
3. استعمال صور الأقمار الصناعية وتقنيات الاستشعار عن بُعد:
الذكاء الاصطناعي قادر على تحليل الصور الملتقطة من الأقمار الصناعية أو الطائرات دون طيار لاكتشاف التغيرات في الغطاء النباتي، ومعدلات إزالة الغابات، وجودة المياه في البحيرات والأنهار، أو حتى نمو المناطق الحضرية.
هذا النوع من التحليل يساعد على رصد التأثيرات البيئية في الوقت الفعلي تقريبًا.
4. تحسين النماذج البيئية التقليدية:
الكثير من النماذج البيئية القائمة يعتمد على معادلات رياضية أو إحصائية تقليدية.
الذكاء الاصطناعي يمكنه تحسين هذه النماذج ، مما يزيد من دقّتها وموثوقيتها.
على سبيل المثال، يمكن لنموذج مدعوم بالذكاء الاصطناعي التنبؤ بمستويات التلوث الهوائي يوميًا، بناءً على حركة المرور، والطقس، ونشاط المصانع.
5. دعم اتخاذ القرار:
الذكاء الاصطناعي لا يقتصر على التحليل فقط، بل يمكنه أيضًا تقديم مقترحات وحلول بديلة.
على سبيل المثال، إذا كانت هناك خطة لبناء طريق سريع يمرّ بمنطقة حسّاسة بيئيًا، يمكن للذكاء الاصطناعي اقتراح مسارات بديلة تقلل من التأثير في النظم البيئية.
أمثلة تطبيقية على استعمال الذكاء الاصطناعي في تقييم الأثر البيئي
1. تتبّع جودة الهواء:
في المدن الكبرى المزدحمة بالسيارات والمصانع، يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل بيانات أجهزة الاستشعار المنتشرة في المدينة للتنبؤ بارتفاع نسب التلوث في أوقات معينة، وهذا يساعد السلطات المحلية على اتخاذ إجراءات فورية مثل تقليل حركة المرور أو إصدار تحذيرات صحية.
2. حماية التنوع البيولوجي:
يمكن للذكاء الاصطناعي تحليل الأصوات المسجلة في الغابات (Bioacoustics) لاكتشاف الأنواع المهددة بالانقراض أو رصد التغيرات في أعداد الطيور والحيوانات، وهذه البيانات تساعد في تقييم كيفية تأثُّر الحياة البرية بالمشروعات القريبة.
3. الحدّ من التصحر وتدهور الأراضي:
باستعمال صور الأقمار الصناعية وتقنيات الذكاء الاصطناعي، يمكن رصد المناطق الأكثر عرضة للتصحر والتنبؤ بالمناطق التي تحتاج إلى تدخُّل عاجل لإعادة التشجير أو إصلاح التربة.
4. إدارة موارد المياه:
الذكاء الاصطناعي يمكنه التنبؤ بكيفية تأثُّر مصادر المياه الجوفية أو السطحية عند تنفيذ مشروع معين، مثل بناء مصنع أو توسعة منطقة زراعية، وهذا يتيح وضع إستراتيجيات لإدارة المياه بشكل أكثر استدامة.
تحديات تواجه استعمال الذكاء الاصطناعي في تقييم الأثر البيئي
1. نقص البيانات أو جودتها المنخفضة:
على الرغم من وفرة البيانات البيئية ، فإن الكثير منها قد يكون غير مكتمل، أو غير دقيق، أو غير محدّث، والنماذج المعتمدة على الذكاء الاصطناعي تحتاج إلى بيانات موثوقة لكي تقدّم نتائج دقيقة.
2. التعقيد البيئي:
الأنظمة البيئية بطبيعتها معقّدة جدًا، وهناك عوامل عديدة متداخلة تؤثّر بالنتائج، وقد يكون من الصعب على الذكاء الاصطناعي التعامل مع كل هذه التعقيدات بدقّة، خصوصًا إذا لم يُدَرَّب على بيانات متنوعة وشاملة.
3. التكلفة العالية للبنية التحتية:
تطبيق الذكاء الاصطناعي يحتاج إلى أجهزة قوية، ومنصات برمجية متقدمة، وخبراء متخصصين، وهذه المتطلبات قد تكون مكلفة جدًا لبعض الدول النامية أو المؤسسات الصغيرة.
4. قضايا الشفافية والتفسير:
واحدة من أبرز التحديات هي أن بعض نماذج الذكاء الاصطناعي، خاصة الشبكات العصبية العميقة، تُعدّ "صندوقًا أسود" يصعب تفسير قراراتها، وهذا قد يثير تساؤلات حول مدى مصداقية النتائج التي يقدّمها الذكاء الاصطناعي في قضايا حسّاسة، مثل البيئة.
5. القضايا الأخلاقية والاجتماعية:
قد يؤدي الاعتماد المفرط على الذكاء الاصطناعي إلى تهميش دور الخبراء البشريين أو المجتمعات المحلية التي لها معرفة تقليدية بالبيئة، كما أن القرارات المتخذة بناءً على الذكاء الاصطناعي قد تكون منحازة إذا لم تُبْنَ على بيانات متوازنة.
كيف يمكن مواجهة هذه التحديات؟
1. تحسين جودة البيانات:
ينبغي الاستثمار في بناء شبكات استشعار متطورة، وتوحيد طرق جمع البيانات البيئية، وضمان تحديثها باستمرار، بالإضافة إلى ذلك، يمكن التعاون بين المؤسسات الحكومية والأكاديمية والخاصة لتبادل البيانات.
2. دمج الذكاء الاصطناعي مع الخبرة البشرية:
بدلًا من الاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي، يمكن استعماله أداةً داعمة للخبراء البشريين، والجمع بين المعرفة العلمية التقليدية والقدرات التحليلية للذكاء الاصطناعي يضمن نتائج أكثر دقة وواقعية.
3. تطوير نماذج قابلة للتفسير:
هناك توجُّه متزايد نحو تطوير ما يُعرَف بـ *الذكاء الاصطناعي القابل للتفسير (Explainable AI)*، الذي يتيح فهم كيفية اتخاذ النظام لقراراته، وهذا يعزز الثقة باستعمال الذكاء الاصطناعي في القضايا البيئية.
4. خفض التكاليف عبر التعاون والشراكات:
يمكن أن تُسهم الشراكات بين الحكومات، والجامعات، والمنظمات الدولية في توفير التمويل اللازم لتبنّي هذه التقنيات، خاصة في الدول النامية، كما يمكن الاستفادة من الحلول مفتوحة المصدر التي تقلل من التكاليف.
5. إشراك المجتمعات المحلية:
من المهم إشراك المجتمعات المحلية في عملية تقييم الأثر البيئي، حيث يمتلكون معرفة تقليدية بالبيئة يمكن أن تُثري البيانات التي يعتمد عليها الذكاء الاصطناعي، وهذا يعزز الشرعية الاجتماعية للقرارات المتخذة.
مستقبل الذكاء الاصطناعي في تقييم الأثر البيئي
من المتوقع أن يتوسع دور الذكاء الاصطناعي في هذا المجال بشكل كبير خلال السنوات القادمة.
التطورات في الحوسبة السحابية، وشبكات الجيل الخامس، وأجهزة إنترنت الأشياء ستُسهّل جمع البيانات وتحليلها في الوقت الفعلي،
كما أن التوجه العالمي نحو الاستدامة البيئية والتحول الأخضر سيزيد من الطلب على حلول مبتكرة تساعد في تقليل الآثار البيئية للمشروعات.
من بين التوجهات المستقبلية:
استعمال التوأم الرقمي (Digital Twin) لمحاكاة المشروعات قبل تنفيذها وتحليل آثارها البيئية افتراضيًا.
تطوير أنظمة ذكاء اصطناعي قادرة على التعلّم المستمر من البيانات الجديدة التي تُجمَع.
دمج الذكاء الاصطناعي مع تقنيات أخرى مثل البلوك تشين لتأمين البيانات البيئية وضمان شفافيتها.
يمثّل الذكاء الاصطناعي ثورة حقيقية في مجال تقييم الأثر البيئي، حيث يوفر أدوات قادرة على التعامل مع التعقيدات البيئية وتقديم رؤى دقيقة تساعد في اتخاذ قرارات أكثر استدامة.
ومع ذلك، فإن نجاح هذه الثورة يتوقف على كيفية مواجهة التحديات المرتبطة بجودة البيانات، والتكاليف، والشفافية، والقضايا الأخلاقية.
إذا ما استُغِلَّ الذكاء الاصطناعي بشكل مسؤول ومدروس، فإنه يمكن أن يشكّل أحد الأعمدة الرئيسة لحماية البيئة وضمان تنمية اقتصادية مستدامة للأجيال القادمة.
* الدكتورة هبة محمد إمام - خبيرة دولية واستشارية بيئية مصرية
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضًا..
){kind=link}