مع كل صباح جديد، تتنفس القاهرة عبق تاريخها الممتد لآلاف السنين، لكن هناك بقعة واحدة فى قلبها، إذا وطأتها قدماك، وجدت نفسك أمام لوحة حية تجمع بين كل فصول الحكاية المصرية من صليل السيوف فى المعارك، إلى صمت غرف التحقيق، ومن صرخات المجرمين إلى هتافات النصر.
إنها قلعة صلاح الدين الأيوبي، التى ترتفع على قمة تلال بين المقطم ومنطقة السيدة عائشة منذ القرن الثانى عشر، كحارسٍ للمدينة، تراقب أبراجها المآذن وتستمع لجريان النيل.
وبين أسوار القلعة العالية، حيث حجارة القرون ونسائم التاريخ، يبرز متحف الشرطة القومي.. مكان لا يشبه أى متحف آخر. فهنا لا تشاهد التاريخ من بعيد، بل تسير بين قاعاته كأنك تعيشه، تشم رائحة الخشب العتيق، تسمع صرير الأبواب الحديدية، وتشاهد الأدلة التى غيرت مجرى القضايا، والرايات التى ظلت ترفرف رغم زخات الرصاص.
كتاب مفتوح منذ الافتتاح عام ١٩٨٦
منذ افتتاحه فى ٢٥ يناير ١٩٨٦، وإعادة افتتاحه عام ٢٠١٣ بعد تطويره، يتحوّل متحف الشرطة فى ٢٥ يناير من كل عام "يوم عيد الشرطة" إلى مسرح للفعاليات الاحتفالية بين عروض مسرحية، وورش للأطفال، وجولات إرشادية، وندوات تبرز بطولات الشرطة وتضحياتها الوطنية.
إنه ليس متحفًا جامدًا، بل هو كتاب مفتوح صفحاته من حجر وزجاج، وصوره من دماء وابتسامات، وحروفه من مزيج الألم والفخر. هنا تتجاور الجريمة مع البطولة، لتصنع الحكاية الكاملة عن الأمن المصري، حكاية بدأت قبل آلاف السنين، وما زالت تُكتب حتى اليوم.
مع اقترابك من القلعة، يلوح فى الأفق سورها المنيع، وبوابتها العالية التى تخبرك منذ الوهلة الأولى أن الداخل إليها لن يخرج كما دخل.
حجارة ضخمة متراصة، محكمة البناء، تتخللها زخارف إسلامية صمدت أمام قرون من الرياح والشمس.
المتحف يفتح أبوابه يوميًا من التاسعة صباحًا إلى الخامسة مساءً، ويُغلق شباك التذاكر عادة فى الرابعة عصرًا. وأسعار الدخول محددة بالنسبة للأجانب والعرب والمصريين، أما الدخول المجانى فهو متاح لفئات محددة مثل كبار السن فوق ٦٠، وذوى الهمم، والأيتام، ورحلات المدارس الحكومية.. ويسمح بالصور الشخصية، لكن الفيديو يتطلب تصريحًا مدفوعًا.
عند المدخل، يقف ضابط شرطة بزى أنيق وابتسامة ترحيب، يمد لك تذكرة الدخول وكأنه يسلمك مفتاحًا لباب الماضي.. خطواتك الأولى عبر البوابة تفتح أمامك ساحة داخلية واسعة، تتردد فيها خطوات الزائرين، وتختلط أصواتهم بصرير الريح التى تتسلل من بين الشقوق القديمة.
البهو الأول للمتحف رحب، أرضيته من الرخام البارد، وجدرانه مزينة بصور ضباط الشرطة فى أزمنة مختلفة، من عمائم القرن التاسع عشر إلى البزات السوداء الحديثة.
وسط القاعة، مجسم ثلاثى الأبعاد للقلعة، تحيط به شاشات تعرض لقطات أرشيفية نادرة مشاهد لضباط على ظهور الخيل، وصور أبيض وأسود لجنود يحملون بنادق خشبية، ومواكب احتفالية فى شوارع القاهرة القديمة.
القاعات تروى تاريخ نضالات الشرطة
المتحف مصمم بعناية ليأخذ الزائر فى مسار زمنى ودرامى.. تبدأ بالحكايات المظلمة، مرورًا بالتطور التاريخى لجهاز الشرطة، وصولًا إلى ذروة البطولة الوطنية فى معركة الإسماعيلية.
قاعة "ريا وسكينة"
حكايات ترويها الجدران عن ريا وسكينة وأدوات الجريمة الحقيقية
بمجرد أن تدخل إلى هذه القاعة، ينخفض الضوء قليلًا، وتزداد الظلال على الجدران، فى تهيئة نفسية ذكية لاستقبال قصة الجريمة. الصور المعروضة بالأبيض والأسود تظهر أزقة الإسكندرية فى بدايات القرن العشرين.. أبواب خشبية متداعية، نساء بملابس تقليدية، وعربات كارو تجوب الشوارع.
فى وسط القاعة، خلف زجاج سميك، أدوات الجريمة الحقيقية حبل غليظ متآكل الأطراف، خنجر صغير بنصل مائل، وقطع قماش كانت تُستخدم لتكميم أفواه الضحايا.
بجانبها، تُعرض ملابس تقليدية تشبه ما كانت ترتديه العصابة أثناء تنفيذ جرائمها.. على الجدران، وثائق التحقيق الأصلية محاضر استجواب بخط اليد، أوامر القبض مختومة بالشمع الأحمر، وصور للمجرمَتين ريا وسكينة، تحدّقان بعدسات الكاميرا ببرود غريب.
إلى جانب المعروضات، مجسم بالحجم الطبيعى لمشهد القبض على العصابة تماثيل شمعية مدهشة الدقة، تُظهر ضابطًا ممسكًا بريا فيما تحاول سكينة التملص. ملامح الخوف والدهشة مرسومة بواقعية على وجهيهما.
اللوحات النصية تروى القصة وكأنها حوار معك: "كانت الإسكندرية فى مطلع القرن العشرين تعج بالحياة، لكن فى أزقتها الضيقة كان شبح الموت يتسلل صامتًا. نساء يختفين بلا أثر، حتى اكتشفت الشرطة الحقيقة المروعة.. شقيقتان تديران عصابة لخنق النساء وسرقة حليّهن. هنا ترى الحبل الذى لفّ حول أعناق الضحايا، وهنا الخنجر الذى كان يجهز على من تحاول المقاومة."
الحبل الغليظ يقارب وزنه كيلو ونصفًا، مصنوع من ألياف القنب المجدولة بإحكام. يعود إلى أوائل القرن العشرين، وقد تغير لونه من البيج الفاتح إلى البنى الداكن بفعل الزمن والدموع التى شربها.. موضوع داخل صندوق زجاجى أفقى على قاعدة خشبية داكنة، تحيطه إضاءة صفراء دافئة تسلط الضوء على التفافاته.. يكاد الحبل أن ينطق بصوت خافت تتخيله: "كنت صامتًا، لكنهم جعلونى شاهدًا على أنفاس تُسلب."
الخنجر الصدئ ويزن نصف كيلو تقريبًا، نصل من الحديد المطروق بطول ٢٠ سم، قبضته من خشب الجوز المشقق.
صنع فى ورشة تقليدية بالإسكندرية حوالى ١٩١٠. ويُعرض مائلًا داخل صندوق عمودى زجاجي، الإضاءة عليه بيضاء مركزة تكشف لمعان الصدأ وتعرجات النصل.
تكاد بسمع الخنجر يتكلم فى همس غاضب: "لم أخلق لأغتال، لكننى وجدت نفسى فى يد لا تعرف الرحمة."
وهنا أيضًا أوراق التحقيق وهى عبارة عن ثلاث صفحات أصلية بخط عربى مائل، من حبر أسود باهت، على ورق سميك ذى حواف صفراء متآكلة. تعود إلى عام ١٩٢١ ومثبتة على لوح مخملى أزرق داخل إطار زجاجي، الإضاءة عليها منتشرة وليست مباشرة حتى لا تؤذى الورق.. عند دخولك القاعة تشعر بأوراق التحقيق تخاطبك: "حملت الحقيقة، لكن صوتى لا يسمع إلا إذا اقتربت بعينيك مني."
تخرج من القاعة محمّلًا بشعور ثقيل، لكن المسار يقودك نحو ضوء جديد.
قاعة الشرطة عبر العصور
فى هذه القاعة المضيئة، تنتشر نماذج لأزياء الشرطة منذ العصور الفرعونية حتى العصر الحديث.
تبدأ بتمثال جندى فرعونى يحمل عصًا وسيفًا برونزيًا، مع شرح عن دور "الشرطة الملكية" فى حماية المعابد والطرق التجارية.
الركن الإسلامى يعرض زى المحتسب، ورقوقًا مكتوبة بالأوامر السلطانية، بينما القسم المملوكى يضم خوذًا معدنية ودروعًا تعكس مهارة الحرفيين فى ذلك العصر.
المعرض الحديث يبدأ من زى الشرطة فى عهد محمد على باشا، وصولًا إلى البزة السوداء الرسمية المعاصرة، مزينة بالنياشين والشارات المعدنية.
من محتويات القاعة تطالع درع الحارس الفرعونى يزن نحو ١٢ كجم، مصنوع من صفائح برونزية مربوطة بخيوط جلدية. يعود إلى الأسرة الثامنة عشرة (حوالى ١٥٠٠ ق.م). وموضوع على تمثال عرض رملى اللون، وخلفه جدارية منقوشة لمشهد حراسة المعبد.
إضاءة صفراء دافئة من الأعلى تسقط بزاوية، فتظهر ظلال حواف الدرع. تتخيل الدرع ينطق بفخر: "صدرى كان حصنًا.. لم يخترقنى سهم واحد."
وتشاهد عباءة المحتسب المملوكي، ووزنها قرابة ٣ كجم، نسيج قطنى ثقيل مصبوغ باللون البنى الداكن، حوافها مزخرفة بخيوط ذهبية يدوية.
تعود للقرن الخامس عشر.. معلقة على حامل خشبى مغطى بالمخمل الأسود، محاطة بإضاءة خافتة من الجانبين. تسمع العباءة تكاد تنطق بصوت رخيم: "لم أكن مجرد ثوب.. كنت هيبة تمشى فى الأسواق."
وتمعن النظر فى بزة القرن التاسع عشر.. وزنها حوالى ٢.٥ كجم، قماش صوفى أزرق داكن، أزرار نحاسية لامعة قطرها ٢ سم. خيطت فى مشغل رسمى عام ١٨٧٠.. موضوعة على دمية عرض واقفة فى منتصف القاعة، الإضاءة عليها بيضاء نقية من الأعلى.
البزة بابتسامة هادئة كما لو تريد أن تقول: "كل زر فيّ كان يحمل ختم الدولة ويدين نظيفتين."
قاعة الوثائق والأوسمة
قاعة فاخرة الإضاءة، جدرانها مكسوة بالخشب الداكن، تعكس رهبة المكان.
على الرفوف الزجاجية، أوسمة ملكية وجمهورية حصل عليها ضباط تفانوا فى أداء الواجب. وثائق شكر مكتوبة بخط اليد من ملوك ورؤساء، بعضها ممهور بختم الدولة.
تقرأ رسالة مؤثرة من الملك فاروق لضابط استشهد فى مهمة، كتب فيها: "إلى أسرة الشهيد.. إن دماءه الزكية تاج على رأس الوطن."
وترى وسام النجمة العسكرية.. وزنه ٨٥ جرامًا، معدن فضى مطلى بالذهب، تصميمه على شكل نجمة ثمانية، شريطه من الحرير الأخضر والأحمر.
مُنح لأول مرة عام ١٩٥٦.. موضوع فى وسط الوسادة المخملية الحمراء داخل صندوق زجاجى صغير، إضاءة بيضاء ناعمة من الأسفل تعكس بريقه.
يكاد ينطق الوسام بفخر واتزان: وُضعت على صدور رجال، بقى أثرهم فى التاريخ."
كما ترى وسام الاستحقاق.. وزنه ٩٠ جرامًا، برونز مطلى بالفضة، شريطه أزرق بخطوط بيضاء.
يعود تصميمه إلى الأربعينيات.. موضوع بجوار بطاقة تعريفية مكتوبة بخط حديث وواضح، فينطق هامسًا: "أنا حكاية شكر مختصرة فى معدن."
قاعة معركة الإسماعيلية
حكايات الرصاص والنار فى تخليد ملحمة الشرف فى معركة الإسماعيلية
القاعة الأكبر والأكثر إثارة للانفعال. منذ اللحظة الأولى، تشدك الراية المصرية المعلقة فى صدر القاعة، وقد بهتت ألوانها بفعل الزمن، لكنها ما زالت تحمل أثر الرصاص.
إلى جوارها، تُعرض البنادق والرشاشات التى استخدمها الضباط فى مواجهة القوات البريطانية يوم ٢٥ يناير ١٩٥٢. بعضها ما زال يحمل خدوش المعركة. سترات واقية ممزقة، خوذ معدنية عليها آثار طلقات، وصور لجنود شباب يبتسمون للكاميرا قبل ساعات من المواجهة.
اللوحات النصية والمقطع الوثائقى المصاحب يسردان الحدث: "فى صباح ٢٥ يناير ١٩٥٢، طوّقت القوات البريطانية مبنى الشرطة فى الإسماعيلية، مطالبةً الضباط بالاستسلام وتسليم أسلحتهم، لكن الرد جاء حاسما لن نسلم إلا على أجسادنا.. ومع قلة العدد والذخيرة، استمرت المعركة ساعات، سقط خلالها العشرات شهداء، لكنهم كتبوا بدمائهم صفحة خالدة من تاريخ مصر."
صوت الرصاص والهتافات يتردد فى القاعة بفضل نظام الصوت المحيطي، لتشعر وكأنك تعيش المعركة بنفسك.
هنا تشاهد العلم المحترق.. وزنه أقل من نصف كيلو، قماش قطنى كثيف، ألوانه باهتة، أطرافه ممزقة وبها ثقوب من الرصاص. رفع فى ٢٥ يناير ١٩٥٢.. معلق على الجدار خلف لوح زجاجى مقاوم للعوامل، الإضاءة عليه قوية من الأعلى كأنه تحت شمس المعركة.
يكاد العلم ينطق بصوت حماسي: "لم أنحنى حتى وهم يسحبوننى من أيدى الشهداء."
والبندقية القديمة، وزنها حوالى ٤ كجم، فولاذ وخشب زان، طولها ١١٠ سم. صنعت فى مصنع بريطانى فى الأربعينيات..معلقة على حوامل معدنية خلف صندوق زجاجى طويل، إضاءة بيضاء باردة تلمع على بطانتها. تسمع البندقية بصوت مبحوح: "أطلقت رصاصى دفاعًا.. لا اعتداءً."
والخوذة المعدنية، وزنها ١.٥ كجم، فولاذ رمادى منبعج فى أحد الجوانب، مبطن بجلد مهترئ. ارتداها أحد الجنود فى المعركة.. موضوعة على قاعدة مستديرة من المخمل الأسود، إضاءة صفراء خافتة من الجانبين. تسمع الخوذة تهمس بهدوء: "تلقيت الضربة بدلًا من رأسه، وهذا يكفيني".
التقنيات المستخدمة فى المتحف كرحلة حسية
المتحف لا يكتفى بالعرض التقليدي، بل يوظف الإضاءة الموجهة لإبراز التفاصيل، والمؤثرات الصوتية لإحياء المشاهد، والعروض الرقمية التى تسمح للزائر بتكبير الصور والوثائق لرؤية أدق التفاصيل.
حتى رائحة الخشب العتيق والأقمشة القديمة فى بعض القاعات تساهم فى إحساسك بالزمن، وأنت تتجول داخل المتحف وترى ضمن ما ترى مشاهد تظل فى الذاكرة دائمًا، ومنها
مدفع رمضان
مدفع ماركة كروب، اشتهر باسم مدفع رمضان. عبارة عن ماسورة من الحديد ترتكز على قاعدة حديدية بعجلتين كبيرتين مصنوعة من الخشب، وأطر من حديد. يرجع تاريخه إلى أسرة محمد على عام ١٨٧١.
أول عربة إطفاء يدوية فى العالم
عربة إنجليزية الصنع من الخشب. كانت بدائية جدًا؛ عبارة عن صندوق مستطيل يرتكز على أربع عجلات، وكان يتم نقلها إلى مكان الحريق بواسطة الخيل. تعود إلى العصر العثمانى عام ١٧٦٦.
دروس من الماضى قبل مغادرة المتحف
عند مغادرة المتحف، لا يتركك المكان كما جئت.. تخرج من آخر قاعة كما لو كنت قد عبرت نفقًا زمنيًا.. وتخرج من المتحف وأنت تحمل فى قلبك مزيجًا من الانبهار والفخر، وربما بعض الحزن على قصص الشهداء.
ستدرك أن هذا المتحف ليس مجرد سجل لجرائم أو بطولات، بل هو مرآة لروح مصر القادرة على مواجهة الظلام، والمصممة على حفظ تاريخها بكل ما فيه من مآسى وأمجاد.
الهواء فى الخارج يختلف، كأنك كنت فى بطن التاريخ، والآن تتنفس الحاضر من جديد.
أصوات القاهرة تدب فى أذنيك، لكنها تبدو أبطأ قليلًا، وكأن روحك ما زالت عالقة بين أروقة المتحف.
تنظر خلفك، فتجد القلعة واقفةً على عرشها الحجري، شامخةً كما كانت قبل قرون، بينما فى داخلك يعلو سؤال صغير: كم من الأسرار ما زالت حبيسة الجدران ولم تُعرض بعد؟"
ربما أكثر ما يبقى معك بعد الزيارة ليس صورة الحبل فى قضية ريا وسكينة، ولا بريق وسام النجمة العسكرية.. بل تلك النظرة فى عينيك حين التقطت انعكاسك فى زجاج إحدى الفتارين.
كنت تنظر إلى قطعة عمرها مئة عام، لكنها كانت تنظر إليك أيضًا، تزن قلبك، وتختبر ذاكرتك، وتطرح عليك سؤالًا صامتًا: "هل ستكون أنت بدورك قصةً تستحق أن تُروى؟"



