نشر الدكتور عبد الراضي عبدالمحسن، أمين لجنة ترقيات أساتذة الفلسفة بالمجلس الأعلى للجامعات، ونائب رئيس الجمعية الفلسفية المصرية، والعميد السابق لكلية دار العلوم، مقاله محل القراءة في جريدة "أخبار اليوم" بتاريخ السبت 16 أغسطس 2025، تحت عنوان: «لِنَحيا بالوعي (26).. الشعراوي بين الغزاليَّيْن في أبجديات دهاقنة الوعي الزائف».
هذه المواقع العلمية الرفيعة تُحمّله مسؤولية مضاعفة تجاه الدفاع عن العقل النقدي، وتحصين السجال الفكري من التبسيط والتخوين والوصم. ولكن من المفارقات التي تستدعي التوقف أن يصدر مقال بهذا القدر من التعبئة الأيديولوجية والمصادرة على الفكر النقدي عن قلمٍ يفترض فيه الموقع الأكاديمي والمسؤولية العلمية ما يقتضي العكس؛ فكاتب المقال ليس شخصًا عاديًا، غير أنّ ما كتبه في مقاله «الشعراوي بين الغزاليَّيْن» جاء ليكرّس بالضبط ما يفترض أن يُحارَب: الخلط بين الأشخاص والأفكار، إغلاق باب النقاش بالاتهام الأخلاقي، وتحويل النقد العلمي إلى جريمة في حق الهوية والدين والوطن. ومن هنا فإن تحليل هذا المقال لا يقتصر على نقد نصٍّ بعينه، بل يكشف عن مفارقة مقلقة بين الموقع الأكاديمي الذي يشغله صاحبه والخطاب الذي يروّجه، وهو خطاب يفتقد إلى أبسط شروط التحليل الفلسفي الذي يزعم الدفاع عنه.
تعريفٌ مطاطي يصادر النقاش
يبدأ الدكتور عبد الراضي عبدالمحسن مقاله بمحاولة تعريف “الوعي الزائف”، لكنه يقع في مأزق التعريف المطاطي الذي لا يُقدِّم معيارًا محددًا ولا إطارًا موضوعيًا. فهو يقرر أن الوعي الزائف هو كل ما يخالف “الحقيقة” و“العقل” و“البداهة” و“المعلوم من الدين بالضرورة”. غير أن هذه العبارات، في جوهرها، حمّالة أوجه وتختلف دلالتها باختلاف المرجعية الفكرية والفقهية والتاريخية. فما يراه كاتب المقال “بداهة” قد يكون محل إشكال عند غيره، وما يعدّه “معلومًا من الدين بالضرورة” قد يختلف فيه الفقهاء والباحثون. وبذلك يصبح التعريف مجرد أداة إقصاء، لا أداة تحليل.
هذا النوع من التعريفات لا يهدف إلى التوضيح بقدر ما يسعى إلى احتكار الحقيقة؛ فهو يغلق باب الاجتهاد والنقاش، ويحوّل أي رأي مخالف تلقائيًا إلى “باطل” أو “خارج عن العقل”. وبهذا، يتجاوز الكاتب مهمة التفسير والبرهنة إلى إصدار حكم قيمة نهائي مسبق على الآخرين. فبدل أن يكون “الوعي الزائف” مفهومًا إجرائيًا يخضع للفحص والتدقيق، يغدو ملصقًا جاهزًا يُرمى به كل مخالف للرؤية التي يتبناها الكاتب.
والأثر المباشر لهذا التعريف المصادِر هو نقل الخلاف من ساحة البرهان والدليل إلى ساحة الأخلاق والهوية. فالذي يناقضه لا يُعامَل باعتباره شريكًا في البحث أو ناقدًا أو حتى محاورًا، بل يتحول إلى متَّهَم في دينه أو في وعيه. بهذه الآلية، ينجح الخطاب في نزع الشرعية عن المخالف قبل أن يبدأ الحوار معه، ويحوِّل النقاش الفكري إلى مواجهة أخلاقية أو عقدية، حيث يُدافع كل طرف عن نفسه لا عن حجته. النتيجة: مصادرة على التفكير، وتكريس للقطيعة بدل التواصل، وتعطيل لآليات النقد والتحليل التي هي صميم الفلسفة والفكر الرشيد.
تحويل الأشخاص إلى “هوية” لتحصينهم من النقد
يلجأ الدكتور عبد الراضي إلى استراتيجية خطابية واضحة تقوم على تحويل الأشخاص إلى هوية جمعية، حيث يقدّم الغزاليَّيْن والشعراوي لا كعلماء أو دعاة لهم اجتهاداتهم وسياقاتهم، بل كـ“قامات” تمثل الدين والهوية في صورتها الكلية. وبمجرد إضفاء هذه الصفة، يصبح أي نقد موجه إلى آرائهم أو اجتهاداتهم أشبه بعدوان مباشر على الدين نفسه أو على الوطن بأسره. هنا يتحقق ما يُعرف بـ“التحصين بالمقدس”، وهو أسلوب يقوم على دمج الرموز البشرية في النسيج المقدس للجماعة، بحيث تتحول من كونها اجتهادات بشرية قابلة للأخذ والرد إلى ثوابت لا يجوز الاقتراب منها.
المفارقة الكبرى أن هذا الأسلوب يتناقض مع ما يرفعه الكاتب من شعارات حول “الإصلاح والتنوير الأخلاقي”. فالتنوير في جوهره لا يتحقق إلا بفتح المجال أمام نقد الأشخاص وفحص أفكارهم علنًا، لأن النقد هو الضامن لتجديد المعرفة وتنقيتها من الجمود والتقديس الأعمى. لكن المقال بدلًا من أن يتيح هذا الفضاء النقدي، يعمل على إغلاقه بالكامل، فيحوّل الرموز الدينية والفكرية إلى خطوط حمراء، ويجعل مساءلتها ضربًا من الجحود أو الخيانة. وبذلك يتبنى خطابًا يُكرّس الاستبداد الفكري باسم الدفاع عن الهوية، بينما يهدم في الوقت ذاته أبسط مقومات العقل النقدي الذي يُفترض أن يقوده.
خلطُ مشاريع متغايرة: تسوية مُضلِّلة بين ثلاثة أنماط
أحد أبرز مظاهر الاضطراب في مقال الكاتب هو خلط مشاريع متغايرة في سلة واحدة، دون تمييز بين طبيعتها أو مقاصدها أو أدواتها. فهو يضع أبا حامد الغزالي، ومحمد الغزالي، ومحمد متولي الشعراوي في خط واحد، باعتبارهم جميعًا ضحايا هجمات “الوعي الزائف”. هذا الجمع يفتقر إلى أي حسّ نقدي بالاختلافات الجوهرية بين هذه الشخصيات، ويُنتج تسوية مُضلِّلة توحي للقارئ أن كل نقد موجه لأي منهم إنما هو بالضرورة جزء من مؤامرة واحدة.
فأبو حامد الغزالي قدّم مشروعًا معرفيًا وفلسفيًا وصوفيًا بالغ التعقيد، إذ اشتبك مع الفلسفة الإغريقية والإسلامية على حد سواء، وكتب في نقدها بمنهج جدلي يستند إلى أدواتها ذاتها. بينما كان الشيخ محمد الغزالي صاحب خطاب إصلاحي اجتماعي فقهي، معنيًا بتجديد الفكر الديني في مواجهة الجمود والسطحية، ومنفتحًا على قضايا المرأة والفن والاجتهاد الحديث. أما الشعراوي فقد قدّم خطابًا وعظيًا وتلفزيونيًا ذا طابع شعبوي، يركّز على التأثير العاطفي المباشر أكثر من التركيب المعرفي أو التحليل الفقهي الدقيق. هذه المشاريع الثلاثة ليست متكافئة من حيث العمق أو المنهج أو التأثير، ولا يمكن ردّها إلى قالب واحد من دون تشويه الحقيقة التاريخية والفكرية لكل منها.
لكن المقال لا يعترف بهذه الفوارق، بل يُصرّ على وضع الجميع في موقع الضحية نفسه، وكأن نقد فكرة وعظية بسيطة يُعادل نقد مشروع فلسفي صوفي معقد، أو موقف فقهي إصلاحي جاد. بهذه التسوية المضللة، يُعفي الكاتب نفسه من مسؤولية مناقشة التفاصيل: فلا حاجة عنده للتفرقة بين نقدٍ يتناول حدود الخطاب التلفزيوني الشعبوي، ونقدٍ يتعامل مع البنية الفلسفية لنص مثل تهافت الفلاسفة. والنتيجة: خطاب عامّ يُسطّح الشخصيات الثلاثة، ويُخفي وراء ستار “المظلومية المشتركة” تنوعها واختلافها. وهذا ليس فقط تقصيرًا تحليليًا، بل إلغاءً متعمدًا للتاريخ والمعرفة لصالح سردية إيديولوجية جاهزة.
من الحُجّة إلى الوصم: قاموس تحقيري بدل برهنة
مقال الدكتور عبد الراضي لا يعتمد على التفنيد العقلاني أو الاستناد إلى نصوص حقيقية يمكن مناقشتها، بل يلجأ إلى أسلوب لغوي قائم على التحقير والوصم. تتكرّر فيه مفردات من قبيل: أبواق، ترّهات، سهام مسمومة، نصب المشانق الفكرية، وهي تعبيرات مشحونة بالعاطفة أكثر مما هي أدوات تحليلية أو نقدية. هذا النوع من الخطاب لا يقدّم حُجّة مضادة بقدر ما يهدف إلى نزع الشرعية عن الطرف الآخر منذ البداية، وكأن الهدف هو كسب التعاطف أو تعبئة المتلقي بدلًا من إقناعه عبر حجج مدروسة.
إلى جانب ذلك، يبرز غياب كامل للنصوص أو الاقتباسات التي يُفترض أنها تثير “الشبهات” أو تُناقَش بوصفها موضوع النقد. فلا وجود لأمثلة نصية، ولا تفصيل للمقولات أو الحجج التي يهاجمها الكاتب. هذا الفراغ يؤكد أن الخطاب أقرب إلى الدعاية أو التحريض منه إلى الجدل المعرفي، إذ يُستبدل البرهان بالاتهام، والتحليل بالخطاب التعبوي الذي يعتمد على صور لغوية صاخبة أكثر من اعتماده على مضمون فكري حقيقي.
منطق دائري وإقفال للنقاش بالنصّ الديني
يلجأ الدكتور عبد الراضي في ختام خطابه إلى توظيف آية قرآنية: ﴿فأما الزبد فيذهب جفاء..﴾، ليضع القارئ مباشرة أمام نتيجة مقررة سلفًا: أن الحق في صفّه هو وجماعته، بينما خصومه لا يمثلون سوى الباطل الزائل. هذا الاستدعاء للنص يشتغل كأداة بلاغية لإغلاق النقاش وإحكام دائرة الحجة، إذ يوحي بأن المسألة محسومة دينيًا ولا مجال للتأمل أو المراجعة، مما يجعل الحوار يتحول إلى تقرير نهائي بدل أن يبقى ساحة جدلية مفتوحة.
غير أن مثل هذا الاستخدام للنصوص يطرح إشكالًا جوهريًا في تحليل الخطاب؛ فهو لا يميز بين قدسية الوحي نفسه وبين القراءة البشرية للنص. حين تُستحضر الآيات بهذا الشكل، يتم إضفاء هالة من العصمة على التأويل الشخصي وكأنه هو الوحي ذاته، وهو ما يؤدي إلى خلط مريب بين النص المطلق والقراءة النسبية. في المقابل، يقتضي التحليل النقدي الرصين أن يوضح الفارق بين النصوص الإلهية الثابتة وبين اجتهادات البشر التي تبقى قابلة للنقد والمراجعة، لا أن تُغلَّف بقدسية زائفة تجعلها محصنة ضد أي نقاش.
التناقض بين ادّعاء “العقل” وممارسة “محاكمة النوايا”
رغم أنّ الدكتور عبد الراضي يرفع شعار “العقل والبداهة” بوصفهما معيارًا للحكم على الظواهر، إلا أنّه ينزلق إلى ممارسة لا عقلانية حين يستبدل مناقشة الأفكار بمطاردة النيات. بدلًا من تحليل البنية الفكرية أو تفكيك الحجج، ينسب دوافع خفية لمن يخالفه: حسد، غيرة، رغبة في الشهرة، أو نزوع إلى نشر التفاهة. هذه الطريقة تُحوّل النقاش من فضاء نقدي قائم على الفكرة إلى فضاء شخصي قائم على التشكيك في الدوافع، وهو ما يُفقد الحوار قيمته ويُبقي القارئ أمام اتهامات غير قابلة للبرهنة.
إنّ محاكمة النوايا تُعَدّ من أضعف أشكال الجدل، لأنها لا تستند إلى دليل موضوعي ولا يمكن التحقق منها علميًا أو منطقيًا. فالنية بطبيعتها أمر داخلي لا سبيل لإثباته أو نفيه، بينما الفكرة يمكن أن تُفكك وتُختبر وتُقاس بمدى اتساقها أو قدرتها على تفسير الواقع. بهذا المعنى، فإن استبدال النقاش العقلي بمحاكمة النيات لا يخدم “العقل والبداهة” التي يتحدث عنها الكاتب، بل يُعيد إنتاج خطاب إقصائي يُفرغ الحوار الفكري من محتواه ويُبقيه في حدود الظنون والتشكيك الشخصي.
علامات “الوعي الزائف” في النص نفسه
علامات الوعي الزائف في مقال الدكتور عبد الراضي تتجلى أولًا في اعتماده على ثنائية صارمة بين "الحق" و"الباطل"، بحيث يُلغى أي مجال للمنطقة الرمادية أو النقاش النقدي. هذا النمط من التفكير يُحوّل الخلافات الفكرية أو الاجتهادية إلى معارك وجودية، وكأن الطرف الآخر لا يمثل رأيًا مختلفًا بل تهديدًا مطلقًا يجب استئصاله. في ظل هذا المنطق، يفقد النص مرونته وقدرته على احتواء التعددية، ويتحوّل الخطاب إلى ساحة إقصاء لا تعترف بالوسطية ولا تسمح بالاعتراف بإنجازات الخصوم أو نقاط التقاء معهم.
ومن جهة أخرى، يعمد النص إلى شيطنة المختلف وتصويره كعدو جمعي عبر إلصاق أوصاف سالبة به، مع تحصين رموزه ومفكريه من النقد من خلال رفعهم إلى مستوى "الهوية" الثابتة لا مجرد اجتهادات بشرية قابلة للخطأ. يترافق هذا مع غياب شبه تام للبرهنة النصية أو التحليل الموضوعي، وحضور طاغٍ للاتهامات واللغة الانفعالية. بل إن النص يلجأ أحيانًا إلى تسوية تعسفية بين مشاريع فكرية متباينة، ليجعلها جميعًا في خانة المؤامرة ضد "الحق"، وبذلك يُنتج صورة ضحية مقدسة واحدة تمثل "الأنا الجمعية"، فيما يُحصر الآخرون في خانة "الباطل" أو "العدو". هذه التقنيات الخطابية تكشف كيف يُعاد إنتاج الوعي الزائف بوصفه أداة للهيمنة والاصطفاف لا للمعرفة.
خاتمة:
في النهاية، ما يلفت النظر في مقال «الشعراوي بين الغزاليَّيْن» ليس فقط ما يحمله من تناقضات ومغالطات، بل أيضًا أنه يصدر عن شخصية أكاديمية يُفترض بها أن تكون حارسة للمعايير العلمية والبحثية في الفلسفة والفكر الديني. غير أنّ المقال يكشف عن انزلاقٍ خطير من منطق البرهنة إلى منطق المصادرة، ومن فضاء التحليل إلى فضاء الوعظ والتجييش. إنّ الدفاع عن الرموز لا يكون بتحصينهم من النقد، بل بفتح النقاش حول تراثهم وإسهامهم بروح علمية حرّة. وإذا كان من هم في موقع المسؤولية الأكاديمية العليا يتبنّون خطابًا يساوي بين النقد والهدم، وبين السؤال والتجديف، فالمحصلة هي تكريس وعي زائف جديد يلبس عباءة “التنوير” بينما يرسّخ في العمق ثقافة الخوف من التفكير. ومن هنا تأتي أهمية تفكيك هذا الخطاب؛ ليس انتصارًا على شخص بعينه، بل دفاعًا عن حق الفكر في أن يظل حرًّا، جريئًا، ومسؤولًا.