تمثل الزراعة التعاقدية واحدة من أهم الأدوات الحديثة لربط الإنتاج الزراعي بالتصنيع، من خلال اتفاقات مباشرة بين المزارعين والمصانع أو الشركات، تضمن توفير منتجات زراعية بمواصفات محددة وفي توقيت مناسب، مع توفير سوق مضمون للمزارع، واستقرار للإمدادات بالنسبة للجهات الصناعية.
في السياق المصري، بدأت الدولة مؤخرًا تعزيز هذا التوجه خاصة في المحاصيل التي تستخدم كمدخلات للصناعات الغذائية والنسيجية مثل العنب المستخدم في تصنيع الزبيب، والكتان الذي يدخل في عدد من الصناعات مثل المنسوجات والزيوت والحبال.
تطبيق الزراعة التعاقدية في قطاع العنب يمنح مصانع الزبيب فرصة لتخطيط الإنتاج بناءً على كميات وجودة المواد الخام المتاحة، مما يقلل من نسب الفاقد ويحسن الجودة النهائية وفي حالة الكتان، فإن التعاقد المسبق مع المزارعين يتيح إنتاج الألياف والبذور بكميات منتظمة، ما يساعد المصانع في تلبية احتياجاتها دون اللجوء إلى الاستيراد أو مواجهة تقلبات السوق.
هذا النموذج من الزراعة يقلل من المخاطر على المزارعين، حيث يحصلون على سعر مضمون وإرشاد فني طوال فترة الزراعة، بينما تستفيد المصانع من تأمين الإمدادات وتوحيد الجودة والكفاءة وتقليل تكاليف النقل والشراء العشوائي من الأسواق.
لكي تنجح الزراعة التعاقدية، تحتاج الدولة إلى تطوير أطر تنظيمية واضحة تضمن حقوق الطرفين، وتقديم حوافز للمزارعين والمستثمرين، مع توفير التمويل والإرشاد والدعم اللوجستي كما أن تفعيل دور الجمعيات الزراعية في التنسيق بين المنتجين والمصنعين سيكون عنصرًا محوريًا في تطبيق هذا النموذج على نطاق واسع، خاصة في المحافظات الريفية ذات الكثافة الزراعية.
توسيع نطاق الزراعة التعاقدية في مصر ليس مجرد خيار، بل ضرورة لتحقيق التكامل بين الزراعة والصناعة، وتحسين دخل الفلاح، وتعزيز الصناعات الوطنية القائمة على المنتجات الزراعية.
رؤية مقترحة لتطوير الزراعة التعاقدية وربطها بالتصنيع الزراعي في مصر
التحول إلى نموذج اقتصادي زراعي إنتاجي متكامل، يحقق الاستدامة والقيمة المضافة من خلال توسيع الزراعة التعاقدية وربطها مباشرةً بالصناعات التحويلية، بما يسهم في تحسين دخول المزارعين، وتعزيز الأمن الغذائي، وتطوير الصناعات الوطنية، وزيادة القدرة التصديرية للمنتجات الزراعية المصنعة.
الركائز الأساسية للرؤية
تكامل زراعي/صناعي:
إنشاء منظومة شراكة فعالة بين المزارعين والمصنعين، تقوم على التعاقد المسبق، وتبادل المنافع، وضمان توريد المواد الخام الزراعية بجودة وسعر مناسبين.
البنية التحتية المتخصصة:
إقامة مجمعات صناعية في مناطق الإنتاج الزراعي (مثل دلتا العنب والكتان) لتقليل الفاقد وتحسين الكفاءة التشغيلية، وتوفير التخزين، والمعالجة، والتعبئة بجوار الحقول.
تحفيز الاستثمار:
منح تسهيلات ضريبية وتمويلية للمصانع التي تعتمد على الزراعة التعاقدية، وتشجيع إنشاء مصانع صغيرة ومتوسطة في القرى المنتجة.
تطوير التشريعات:
وضع قانون موحد ومنظم للزراعة التعاقدية يضمن حقوق الطرفين، ويُحدد آليات فض النزاعات، مع تفعيل دور الجمعيات التعاونية كوسيط موثوق.
التأهيل الفني والبشري:
تدريب المزارعين على الزراعة التخصصية وفقًا لمتطلبات التصنيع، وتأهيل الكوادر الفنية للعمل في خطوط الإنتاج، لضمان تحقيق الجودة.
التحول الرقمي:
إنشاء منصة إلكترونية وطنية للزراعة التعاقدية تتيح تسجيل المزارعين والمصنعين، وتسهيل العقود، ومتابعة الإنتاج، وربطه بسلاسل التوريد والتوزيع.
النتائج المتوقعة من تنفيذ هذه الرؤية
زيادة المساحات المزروعة بمحاصيل صناعية ذات عائد اقتصادي مرتفع.
تقليل الفاقد في المحاصيل بعد الحصاد.
خلق فرص عمل مباشرة وغير مباشرة في الريف.
تحسين جودة المنتجات الزراعية المصنعة وتنافسيتها في الأسواق الخارجية.
تحقيق استقرار سعري وإنتاجي للمزارعين والمصنعين.
وعلى صعيد آخر، الزراعة التعاقدية ليست مجرد آلية تسويقية، بل هي استراتيجية تنموية شاملة إذا ما تم تفعيلها ودمجها في السياسات الزراعية والصناعية، فإنها قادرة على إحداث تحول نوعي في هيكل الاقتصاد الريفي، وتعزيز التصنيع المحلي القائم على موارد مصر الزراعية.