اللقاء الذى جمع دونالد ترامب وفلاديمير بوتين فى ألاسكا لم يكن مجرد حدث دبلوماسى عابر يمكن حصره فى عدسة المصورين أو فى كلمات المقدمات الرسمية، بل كان مسرحًا رمزيًا، هذا المسرح كان المطلوب منه أن يعيد رسم ملامح المرحلة، ويضع أوروبا أمام اختبار وجودى جديد، فقد جاء انعقاد القمة فى ولاية ألاسكا، حيث تلتقى جغرافيا الولايات المتحدة بحدود القطب الشمالي، كإشارة مشحونة بالدلالات، وكأن ترامب أراد أن يقول إن العالم اليوم فى نقطة تماس بين الثلج والنار، بين الشرق والغرب، بين التنافس على الخرائط ومحاولة إرساء قواعد جديدة للعبة الكبرى. السجادة الحمراء التى تم فرشها أمام بوتين، والحفاوة الاستثنائية التى أظهرها ترامب، ليست مجرد تفاصيل بروتوكولية، بل رسائل مشفرة لا تغيب عن عين الأوروبيين الذين قرأوا فيها بوادر تنازلات محتملة أو انحيازات ترتدى أقنعة.
الأوروبيون وجدوا أنفسهم مدعوين إلى مراجعة يقظة لمواضع أقدامهم على رقعة الشطرنج العالمية، وما زاد من حدة التساؤلات أن القمة أعقبتها مكالمة جماعية أجراها ترامب مع عدد من القادة الأوروبيين، حاول فيها طمأنتهم بأن واشنطن لن تنفرد بالقرار وأن أوروبا شريك أصيل فى أى ترتيبات مقبلة، لكن التباين كان واضحًا بين ما قاله ترامب لهم وما باح به لاحقًا فى لقاء تليفزيوني، حيث ألمح إلى أن أوكرانيا ربما تضطر إلى قبول "تسويات مؤلمة" فى سبيل السلام، وهو تصريح كفيل وحده بإشعال نقاش واسع فى بروكسل وباريس وبرلين ووارسو وهلسنكي.
الكلمات لم تكن مجرد تحليل لحظة، بل مفتاحًا لكيفية تفكير الرجل الذى قد يجد فى "صفقة سريعة" إنجازًا شخصيًا يُقدمه لجمهوره، حتى وإن كان على حساب المبادئ التى تشكلت عليها أوروبا المعاصرة بعد ١٩٤٥.
ردود الفعل الأوروبية جاءت متفاوتة لكنها تقاطعت جميعها عند نقطة مركزية وهى إن القارة لا يمكن أن تقبل بأى تسوية لا تضمن وحدة الأراضى الأوكرانية، المستشار الألمانى أولاف شولتس تحدث بنبرة حذرة، مشددًا على ضرورة منح الدبلوماسية وقتًا، لكنه حذّر فى الوقت ذاته من أن أى تنازل حدودى سوف يؤدى إلى تقويض أسس النظام الدولي، الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون كان أكثر وضوحًا حين أكد أن أوروبا لن تعترف أبدًا بأى اتفاق يشرعن الاحتلال أو يضفى شرعية على ما تم بالقوة، أما رئيس الوزراء البولندى دونالد توسك فقد صعّد من لهجته، معتبرًا أن "التسوية على حساب كييف هى استسلام استراتيجى سيلاحق أوروبا لعقود".
فى هلسنكي، كانت الرسائل أكثر قلقًا، إذ اعتبر القادة الفنلنديون أن أى إشارة إلى إمكانية قبول تبادل أراضٍ تعنى تهديدًا مباشرًا لأمنهم القومي، نظرًا لتاريخهم الطويل مع روسيا، أما إيطاليا وإسبانيا فقد اتسمت بياناتهما بقدر من البرجماتية، مشيرة إلى ضرورة البحث عن مخرج للأزمة الإنسانية والاقتصادية، مع الإصرار فى الوقت نفسه على احترام القانون الدولي.
هذا التنوع فى النبرة يعكس التباينات داخل الاتحاد الأوروبى ذاته، وعلى سبيل المثال شرق القارة يقرأ الصراع كمعركة وجودية تمس أمنه المباشر، بينماغرب القارة ينظر إليه من زاوية أوسع تشمل الاستقرار الاقتصادى والسياسي، لكن المشترك بين الطرفين هو الخوف من تكرار سيناريو يتم من خلاله فرض خرائط النفوذ فوق رأس أوروبا، كما حدث منتصف القرن الماضى حين رسمت القوى الكبرى حدودًا لم يشارك الأوروبيون فى صياغتها بالكامل، فدفعوا ثمنها أجيالًا.
الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى دخل بدوره على خط ما بعد القمة، محذرًا من أن بلاده لن تقبل أن يتم دفعها نحو اتفاق ينتقص من سيادتها، لكنه بدا فى الوقت نفسه مدركًا لثقل الضغوط، فحاول التمسك بخطاب مزدوج وهو الإصرار على الدفاع عن كل شبر من الأرض، وفى ذات الوقت الانفتاح على أى مبادرة تحقق سلامًا عادلًا.
موقف زيلينسكى هذا يعكس معضلة أوكرانيا الجوهرية التى تؤكد حاجتها الملحّة لوقف نزيف الحرب من جهة، وخوفها العميق من أن يتحول أى تنازل إلى سابقة تقضى على حلمها الأوروبى من جهة أخرى.
أوروبا تجد نفسها إذن أمام سلسلة سيناريوهات معقدة، فى المسار الأول قد تنجح القارة فى الحفاظ على وحدتها الداخلية وتفرض وجودها على الطاولة، لتقود إلى اتفاق يضمن انسحاب القوات الروسية ويفرض ترتيبات أمنية ملزمة بمشاركة أممية وأوروبية، هذا المسار وإن بدا صعبًا، سيعيد تثبيت قواعد النظام الدولى ويمنح الاتحاد الأوروبى دور الضامن لا المتفرج، أما المسار الثانى وهو الأكثر واقعية وفق بعض المحللين، فيتمثل فى "التسوية القسرية"، أى صفقة بين واشنطن وموسكو ويتم فرضها على كييف، ربما عبر تبادل أراضٍ أو صيغة حياد قسري، هنا سيكون الدور الأوروبى هامشيًا، والنتيجة هدوء نسبى قصير المدى يقابله هشاشة طويلة الأمد، تفتح الباب أمام أزمات مستقبلية أخطر.
السيناريو الثالث، وهو الأسوأ، يتمثل فى فشل الدبلوماسية وعودة التصعيد العسكرى بوتيرة أعنف، ما يضع أوروبا أمام استحقاقات دفاعية واقتصادية غير مسبوقة، ويجبرها على إعادة تشكيل بنيتها الأمنية بعيدًا عن المظلة الأمريكية.
لكن خلف هذه الاحتمالات جميعًا يلوح سؤال أعمق وهو هل تستطيع أوروبا أن تخرج من عباءة التبعية الاستراتيجية وتبنى لنفسها موقفًا مستقلًا؟ التصريحات الأوروبية الأخيرة تكشف عن إدراك متزايد بأن مستقبل القارة على المحك، وأن انتظار ما تقرره واشنطن وحدها لم يعد خيارًا. غير أن الانقسامات الداخلية، وتباين المصالح بين شرق وغرب وجنوب الاتحاد، يهدد بتقويض هذا الطموح. فالسياسة الأوروبية اليوم محكومة بمعادلة دقيقة ويمكن اعتبار كل خطوة تتخذها إما أن تعزز موقعها كلاعب أساسى فى النظام العالمى الجديد، أو أن تدفعها إلى الهامش حيث يتم صياغة القرارات بمعزل عنها.
وهكذا، لم تكن قمة ألاسكا مجرد لقاء بين رئيسين بل كانت مرآة أظهرت حجم المأزق الأوروبي، وامتحانًا لقدرته على قراءة التاريخ واستباق المستقبل، فإذا كان الماضى قد علم القارة أن الغياب عن طاولة المفاوضات يعنى أن تكون على قائمة الغائبين عن صنع التاريخ، فإن الحاضر يفرض عليها أن تختار إما أن تكون شريكًا كاملًا فى صياغة السلام، أو أن تكتفى بدور المتلقى لخرائط يخطها آخرون فوق جغرافيتها السياسية، وبين الحفاوة التى أظهرها ترامب لبوتين، والصرامة التى تنادى بها عواصم أوروبا، يتحدد مصير قارة بأكملها، تبحث مرة أخرى عن مكانها فى عالم يتغير بسرعة لا ترحم.
