لم يعد الحديث عن مستقبل غزة محصوراً في نطاق الحرب الميدانية فقط، بل أصبح جزءاً من معركة المفاهيم والتعريفات السياسية والقانونية التي تحاول إسرائيل فرضها، فمع تصاعد العمليات العسكرية الأخيرة، يبرز سؤال مركزي: هل من السهل على إسرائيل أن تعيد احتلال غزة وخان يونس ودير البلح؟ الجواب المباشر: لا، السيطرة على مدن مكتظة عمرانياً وسكانياً، بواقع يتجاوز المليوني نسمة، تعني دخول إسرائيل في حرب عصابات طويلة الأمد، حيث يتطلب فرض النظام عشرات الآلاف من الجنود وفق تقديرات العقيدة العسكرية الأمريكية لمكافحة التمرد، التي تحدد الحاجة بنحو 20 جنديا لكل 1000 مدني.
هذا المعيار، رغم أنه أدنى تقدير، يكشف حجم الكلفة البشرية التي تحتاجها أي قوة احتلال، فضلاً عن غياب سلطة محلية في غزة اليوم، ما يجعل المهمة شبه مستحيلة.. الوجود الإسرائيلي داخل المخيمات، كجباليا أو الشاطئ أو النصيرات، يحمل بدوره كابوس الاستنزاف، تلك الأحياء الكثيفة ترتبط بشبكات أنفاق مترامية تسمح للمقاتلين بالظهور والاختفاء وإعادة التموضع، تجارب العامين الماضيين أكدت أن دخول الجيش الإسرائيلي ممكن، لكن البقاء هناك يعني خسائر مستمرة بالعبوات الناسفة، القنص، والصواريخ المضادة للدروع، إضافة إلى حرب نفسية وسياسية تطحن المجتمع الإسرائيلي نفسه.
تكتيكات إسرائيلية
في سيناريو حرب جديدة، يبرز تكتيك إسرائيل في الاعتماد على الاقتحامات الليلية السريعة والغارات الجوية الكثيفة، بدل التمركز الطويل، إلى جانب توسيع المناطق العازلة، هذا ما أطلق عليه باحثون إسرائيليون وصف جز العشب، أي تقليم قدرات المقاومة كل فترة دون حسم، لكن في المقابل، تملك حماس والفصائل أدواتها: كمائن أنفاق، مسيرات بسيطة انتحارية، قذائف موجهة مضادة للدروع، ونيران صاروخية تقيد حركة القوات، البيئة الحضرية الكثيفة تجعل هذه التكتيكات أكثر فاعلية، وتؤكد أن المعركة لن تكون متكافئة لكنها ستظل مكلفة.
يبقى سؤال الانسحاب عام 2005 محورياً: إذا كان الاحتلال مجدياً، فلماذا انسحب شارون؟ الجواب أن خطة الانفصال لم تكن تنازلاً، بل إعادة تموضع: تخفيف عبء إدارة من 1.5 إلى 2 مليون فلسطيني، حماية الجيش من الاستنزاف، وإعادة تركيز المشروع الاستيطاني في الضفة الغربية حيث المكاسب السياسية أكبر، بمعنى آخر، كانت الحسابات قائمة على كلفة أو منفعة لا على تغيير في العقيدة الصهيونية.
المصطلحات هنا تحمل دلالات قانونية ثقيلة، فبينما تصر إسرائيل على استخدام تعبير سيطرة أمنية، يفتح وصف احتلال الباب لالتزامات كاملة وفق اتفاقية جنيف الرابعة: من توفير الغذاء والدواء، إلى ضمان الصحة العامة والسماح بمرور الإغاثة، وهذا فارق جوهري، إذ لا يمكن لدولة أن تستفيد من مزايا الردع دون تحمل واجباتها كقوة احتلال بمجرد تحقق السيطرة الفعلية.
التزامات القانون الدولى
تحت الاحتلال المباشر، يفرض القانون الدولي التزامات لا لبس فيها: واجب تأمين الغذاء والدواء، تشغيل المستشفيات، منع استخدام الحصار لتجويع السكان، المواد 55 و56 و59 من جنيف الرابعة تجعل قوة الاحتلال مسؤولة أولاً وأساساً عن حياة المدنيين، وتلزمها بقبول وتيسير أي جهود إغاثة دولية، أي تهرب عبر مصطلحات بديلة لا يسقط هذه الالتزامات متى ما توافرت الشروط الواقعية للاحتلال.
في هذا السياق، تبدو تصريحات نتنياهو المتكررة عن إسرائيل الكبرى خليطاً من الإفلاس السياسي بعد الإخفاق في غزة، ومحاولة مغازلة القاعدة اليمينية المتطرفة، وتجديد التعبير عن جوهر المشروع الصهيوني نفسه، فمن جهة، يغطي الخطاب على الفشل الميداني، ومن جهة أخرى يخاطب شركاء ائتلافيين متشددين مثل بن غفير وسموتريتش، لكن في العمق، يعكس هذا الخطاب البعد الأيديولوجي الذي لم يغادر الوعي الصهيوني: مشروع مفتوح على التوسع بلا حدود واضحة.
أيضا إشاعة أو محاولات تهجير سكان غزة إلى جنوب السودان ليست سوى فصل جديد في مسلسل تصفية القضية الفلسطينية بوسائل غير مباشرة، إذ يراد تحويل معاناة الشعب الفلسطيني من قضية تحرر وطني إلى مجرد أزمة لجوء إنساني، هذه الطروحات تعكس عقلية استعمارية تسعى لتفريغ الأرض من أهلها وإعادة صياغة الجغرافيا والديموغرافيا بما يخدم المشروع الصهيوني، لكنها في النهاية تصطدم بالوعي الفلسطيني والإدراك العربي بأن حق العودة والتمسك بالأرض هو خط الدفاع الأول والأخير ضد هذه المخططات.
رمزية مروان البرغوثى
وهنا تبرز رمزية مروان البرغوثي، وتهديدات بن غفير له في السجن لم تكن حادثة عابرة، بل مؤشر على خشية التيار اليميني من تحول البرغوثي إلى رمز بديل قادر على توحيد الفلسطينيين، خصوصاً مع استمرار تقدمه في استطلاعات الرأي كمرشح توافقي، وتحقيق مصالحة بين حركتي فتح وحماس.. البرغوثي، المعتقل منذ 2002 والمحكوم بخمس مؤبدات، يمثل في الوعي الفلسطيني أيقونة نضالية تجمع بين خطاب المقاومة وتجربة سياسية تدعو لحل الدولتين، لذلك، يبقى ملفه حاضراً كجزء من الصراع على المستقبل الفلسطيني والإسرائيلي معًا.
في المحصلة، احتلال غزة ليس مجرد قرار عسكري، بل مشروع حكم واستنزاف طويل الأمد قد يغرق إسرائيل في أعباء سياسية وقانونية وإنسانية، استخدام مصطلحات مثل سيطرة أمنية لا يعفيها من المسؤوليات إذا تحققت شروط الاحتلال، كما أن شعارات إسرائيل الكبرى ليست سوى محاولة لإعادة إنتاج المشروع الصهيوني بصيغة أكثر صراحة في زمن الأزمات، وفي قلب هذه المعادلة، أثبتت مصر، مرة بعد أخرى، بقيادة الرئيس عبدالفتاح السيسي أنها الضامن الوحيد الذي يمكنه وقف نزيف الدم الفلسطيني وفرض التوازن على طاولة المفاوضات، وفي كل محطة يتجدد الحلم الصهيوني إلا أنه يصطدم دوماً بجدار القاهرة، حيث تتكسر الحسابات الإسرائيلية أمام صلابة الموقف المصري الذي يرفض تصفية القضية الفلسطينية، ويحافظ على جذوة الأمل لدى العرب بأن فلسطين ما زالت حاضرة في الضمير، وأن مشروع إسرائيل الكبرى سيظل حبراً على ورق.