في الركن الهادئ من مسجد الرفاعي بالقاهرة، يقف ضريح بديع يحمل بين طيات رخامه الأبيض المذهب قصة امرأة استثنائية في تاريخ مصر الحديث: الأميرة جشم آفت هانم، الجارية التركية التي أصبحت الزوجة الثالثة للخديوي إسماعيل، وحظيت بمكانة خاصة في قلبه رغم أنها لم تُرزق منه بأبناء.
رائدة تعليم الفتيات في مصر
لم تكن جشم آفت مجرد زوجة في قصر عابدين، بل كانت صاحبة فكر إصلاحي ورؤية اجتماعية سبقت عصرها. ففي عام 1873، أنشأت أول مدرسة حكومية مجانية لتعليم الفتيات في مصر والعالم الإسلامي، عُرفت باسم المدرسة السيوفية، قبل أن يُطلق عليها لاحقاً اسم السنية. بذلك، فتحت الباب أمام تعليم المرأة، ووضعت لبنة في بناء النهضة التعليمية.
التركيبة الرخامية… فن على طراز الملوك
توفيت الأميرة يوم السبت 26 رمضان سنة 1325هـ (1907م)، وشُيّد ضريحها داخل مسجد الرفاعي، وجاءت تركيبته الرخامية تحفة فنية قائمة على قاعدة مستطيلة، تبرز أركانها الأربعة بزوايا مشطوفة.
يتكون الضريح من طابقين غارقين في الزخرفة، حيث تتشابك الأوراق النباتية وفروع العنب مع الزهيرات وحلزونات الفن الإسلامي، بينما تتخللها أوراق الأكنتس وكيزان الصنوبر المذهبة. في الطابق الأول، تتوزع الكوابيل المزينة بالزخارف الحلزونية، ويتوسط كل ضلع مستطيل مملوء بآيات قرآنية، في انسجام بين النص المقدس والفن التشكيلي.
شاهدان… بين البساطة والفخامة
يعلو الضلعين الجنوبي الغربي والشمالي الشرقي شاهدا قبر، لكل منهما طابع مختلف، الشاهد الخلفي بسيط، يزين ظهره زخارف نباتية مذهبة، بينما يبقى وجهه أملس خالياً من الكتابة، أما الشاهد الأمامي، فجاء فخماً، تتوزع عليه سبعة أسطر رأسية داخل إطارات مذهبة، تنص على:
- إنا لله وإنا إليه راجعون
- هذا قبر المرحومة
- جشم آفت هانم
- حرم المرحوم إسماعيل باشا
- خديو مصر
- توفيت يوم السبت
- 26 رمضان سنة 1325
- بين العمارة والذاكرة
لا يقف الضريح عند حدود كونه أثراً معمارياً، بل يمثل ذاكرة حية لشخصية نسائية لعبت دوراً رائداً في مجال التعليم، وجسّدت ذروة الترف والزخرفة في فن العمارة الإسلامية بمطلع القرن العشرين.
ومن يقف أمامه اليوم، في بهو مسجد الرفاعي، لا يرى فقط رخاماً منقوشاً ومذهباً، بل يلمس حكاية إنسانية، تختلط فيها ملامح القصور العثمانية بروح النهضة المصرية، ويشعر وكأن الفن قد تحالف مع التاريخ ليمنح الأميرة جشم آفت هانم حياة ثانية بين جدران المسجد العتيق.
