
استعادة نفوذ.. باريس تعود للانخراط فى لبنان وسوريا امتدادا لدورها التاريخى والاحتفاظ ببعض أدوات هيمنتها فى المنطقة
ماكرون يدعم الانتقال السلمى وإعادة الإعمار وتعزيز حضور فرنسا الاقتصادى وترسيخ دورها كلاعب رئيسى فى الترتيبات الإقليمية لما بعد الحرب
تعرضت العلاقات الفرنسية السورية إلى هزات كثيرة وعنيفة، متأثرة بتاريخ الانتداب الفرنسى (١٩٢٠–١٩٤٦) ثم تقلبات السياسة فى الشرق الأوسط. خلال العقد الأخير اشتدت هذه التعقيدات بفعل الحرب السورية وتداعياتها. وقفت فرنسا منذ ٢٠١١ موقفا حازما ضد نظام بشار الأسد، مطالبةً برحيله وداعمةً للمعارضة السورية. وقطعت باريس علاقاتها الدبلوماسية بسوريا فى ٢٠١٢ وفرض الرئيس فرنسوا هولاند عقوبات مشددة ضمن إطار الاتحاد الأوروبي، بينما تصاعد التنسيق الفرنسى مع حلفاء المعارضة والحلفاء الدوليين فى محاولة لإنهاء الصراع سلميًا. فى الوقت نفسه، وجدت فرنسا نفسها معنية بأمنها الداخلى أمام تهديد الإرهاب المرتبط بالأزمة السورية، ما دفعها إلى تعاون أمنى حذر خلف الكواليس مع مختلف الأطراف. وعلى الصعيدين الاقتصادى والثقافي، تأثرت المصالح الفرنسية بشدة؛ فجمّدت التبادلات التجارية وتوقفت المؤسسات الثقافية الفرنسية فى سوريا، مع استمرار نشاط الجالية السورية فى فرنسا ومنظمات حقوقية فرنسية-سورية فى الدفع نحو المساءلة والعدالة. فى سياق الحرب الأهلية السورية، عام ٢٠١٧، حافظ الرئيس ماكرون على نهج قريب من نهج سلفه الرئيس هولاند: إذ أكد دعمه للمعارضة السورية، لكنه غيّر خطابه مع ذلك، مُصرّحًا علنًا بأنه لا يريد أن يكون "إزاحة بشار الأسد شرطًا مسبقًا للمناقشات. معتبرا داعش عدونا، وبشار عدو الشعب السوري.
فى عام ٢٠١٩، عقب الانسحاب الأمريكى والتحالف الكردى مع دمشق، تعرّض وجود فرنسا العسكرى والدبلوماسى فى سوريا للخطر، لم يعد لفرنسا أى حلفاء فى سوريا.
وفى عام ٢٠٢٣، مع اتجاه دول عربية للتطبيع مع دمشق، بقيت فرنسا على موقفها الرافض للتطبيع بدون حل سياسي، بل جدّد كبار مسئوليها وصفهم لنظام الأسد بأنه "عدو لشعبه" وضرورة محاكمته.
فى مايو ٢٠٢٤ أطلقت فرنسا محاكمة غير مسبوقة ضد مسئولين سوريين كبار على خلفية الوفاة المأساوية لأب وابنه من شدة التعذيب عام ٢٠١٣. وكانت هذه المحاكمة التاريخية أول محاكمة قانونية فى فرنسا يواجه فيها مسئولو نظام بشار الأسد فى سوريا.
فى مايو ٢٠٢٥، استقبل ماكرون الرئيس السورى أحمد الشرع فى قصر الإليزيه، فى سياق تزايدت فيه الانتهاكات ضد الأقليات والعنف الطائفي.
العلاقات الاقتصادية
تُعدّ سوريا شريكًا تجاريًا متواضعًا لفرنسا: فهى تحتل المرتبة ٧١ فى تصنيفات الصادرات والمرتبة ٥٧ فى تصنيفات الواردات. وقد نتج الانخفاض الحاد فى الصادرات الفرنسية عن فتور العلاقات السياسية الثنائية عام ٢٠٠٥. ويجرى حاليًا النظر فى استئناف التعاون المالي.
استضافة باريس المؤتمر الدولى الثالث حول سوريا منذ سقوط نظام بشار الأسد، مشيرة إلى أن فرنسا، التى أصبحت مهمشة فى الأزمة فى الشرق الأوسط، تعود الآن إلى الانخراط فى لبنان وسوريا، حيث يمتد دورها التاريخي، وتحتفظ ببعض أدوات النفوذ فى المنطقة.
تسعى فرنسا إلى "المساعدة فى المناورة" من خلال "قلب الطاولة" لاستعادة نفوذها فى سوريا. هدف المؤتمر إلى الاستجابة لـ"احتياجات عاجلة" فى سوريا، وهى دعم الانتقال السلمى الذى يحترم سيادة سوريا وأمنها، وحشد شركاء سوريا لدعم إعادة الإعمار والاستقرار، ومعالجة قضايا العدالة وتعزيز مكافحة الإفلات من العقاب.
تم تنظيم نسخة المؤتمر الأولى، المخصصة لتنسيق المساعدات الدولية، فى العقبة بالأردن، وعقد بعدها فى العاصمة الفرنسية باريس، فى إطار الجهود الرامية إلى تنسيق الجهود الدولية لمساعدة سوريا.
حيث كان لدى فرنسا ثلاثة دوافع رئيسة للعودة إلى المشهد السوري. أولا، دعم تطلعات الشعب السورى منذ بداية الأزمة فى عام ٢٠١١، حيث تبنت باريس موقفًا مساندًا للمعارضة ضد النظام السابق.
ثانيا، مكافحة الإرهاب، إذ ترى الصحيفة أن أى اضطراب فى العملية الانتقالية قد يؤدى إلى عودة نشاط تنظيم الدولة الإسلامية فى سوريا، وهو ما يشكل تهديدًا مباشرًا للاستقرار الإقليمى والدولي.
ثالثا، التعامل مع ملف الجهاديين الفرنسيين، حيث لا يزال العديد منهم موجودين فى سوريا، بعضهم أحرار فى الشمال الغربي، والبعض الآخر فى سجون الأكراد فى الشمال الشرقي. وأكدت الصحيفة أن باريس تشعر بالقلق من الدور الذى قد يلعبه هؤلاء المتطرفون فى حال حدوث فوضى خلال عملية إعادة هيكلة البلاد.
تسعى فرنسا للعب دور الوسيط بين دمشق وقوات سوريا الديمقراطية "قسد"، حيث نقلت عن دبلوماسى فرنسى قوله إن باريس تريد التأكد من أن استعادة السلطات السورية الجديدة سيطرتها على كامل الأراضى تتم بتفاهم جيد مع الحلفاء الأكراد، الذين كانوا فى طليعة القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية.تتمثل طموحات باريس فى ضمان "اندماج كامل" للأكراد فى العملية السياسية، بحيث لا يتم تهميشهم أو استبعادهم من مستقبل البلاد.
إن فرنسا تريد سوريا "حرة وذات سيادة"، بعيدة عن نفوذ روسيا وإيران، ولا تشكل بعد الآن وسيلة لنقل الأسلحة إلى الميليشيات الشيعية التى تزعزع استقرار المنطقة.
شدد الرئيس الفرنسى، فى مكالمته الهاتفية مع الرئيس أحمد الشرع فى المرحلة الانتقالية، على دعم فرنسا الكامل لمرحلة الانتقال فى سوريا، كما أكد على جهوده لرفع العقوبات عن سوريا و"فتح الطريق أمام النمو والتعافي.
تسعى فرنسا للعودة إلى سوريا من أجل تحقيق أهداف استراتيجية متعددة تشمل استعادة نفوذها الجيوسياسي، وتعزيز حضورها الاقتصادي، وترسيخ دورها كلاعب رئيسى فى الترتيبات الإقليمية لما بعد الحرب. إذ ترى باريس فى سوريا نقطة استراتيجية حيوية على البحر الأبيض المتوسط، تتيح لها مواجهة التحدّيات الناتجة عن تراجع نفوذها فى أفريقيا وتصاعد النفوذ الروسى هناك. كما تعتمد فرنسا على توحيد الصف الكردى كمدخل لتأمين حضورها فى الشمال السوري، ما يمنحها ورقة ضغط فعالة فى مواجهة تركيا وتعزيز علاقتها بالقوى الكردية كحليف استراتيجي. فى المقابل، تتجلى مخاوف أنقرة من التحركات الفرنسية فى دعم باريس للكرد وتحالفها مع “قسد”، ما يعمق الصراع الفرنسي-التركى حول مستقبل سوريا.
قد يكون لتراجع دور فرنسا فى أفريقيا وظهور النفوذ الروسى هناك تأثيرٌ كبير على توجهات السياسة الفرنسية فى منطقة الشرق الأوسط، وخاصة سوريا. فبعدما شهدت أفريقيا تقاربًا متزايدًا بين روسيا وبعض الدول الأفريقية، حيث عززت موسكو وجودها العسكرى والاقتصادى هناك، تجد فرنسا نفسها أمام تحدّياتٍ كبيرةً لاستعادة نفوذها فى مناطق أخرى مثل الشرق الأوسط. وسوريا التى تعتبر نقطة استراتيجية على البحر الأبيض المتوسط، تمثل فرصة ذهبية لفرنسا لتستعيد دورها فى المنطقة، وتضمن حضورًا دائمًا على الساحة الدولية.
إنّ العودة الفرنسية إلى سوريا بعد الحرب قد تكون بمثابة محاولة لاستعادة مكانتها فى المنطقة، على حساب تراجع الدور الروسى هناك. يمكن لفرنسا أن تسعى لتوسيع نفوذها عبر تقديم نفسها كقوة موازية فى مواجهة النفوذ الروسي، خاصة مع تسارع الدعوات الأوروبية، لانسحاب القواعد الروسية من سوريا. هنا، يمكن لفرنسا استثمار القضايا السياسية والأمنية، مثل محاربة الإرهاب وحماية الأقليات، كورقة ضغط لتحقيق هذا الهدف، ما يسمح لها بتعزيز وجودها العسكرى والدبلوماسى فى سوريا.
أمّا من منطلق المصالح الاقتصادية، فتطمح فرنسا للعب دور رئيسى فى عدة مشاريع اقتصادية استراتيجية فى البلاد، خصوصًا فى قطاع الطاقة. ومن أبرز هذه المشاريع تطوير خطوط نقل الغاز والنفط عبر سوريا إلى أوروبا، مثل إعادة إحياء خط أنابيب الغاز العربى الذى يمر عبر سوريا إلى البحر الأبيض المتوسط. كذلك، يمكن لفرنسا أن تساهم فى تجديد وتوسيع خطوط أنابيب النفط التى تربط العراق بسوريا، ما يساعد فى تأمين إمدادات الطاقة الأوروبية ويعزز الاقتصاد السوري. كما أنّ فرنسا تستطيع الاستثمار فى مشاريع الطاقة المتجددة فى سوريا مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح، وهو ما يتماشى مع خططها لدعم تحول أوروبا إلى الطاقة النظيفة، مع إمكانية ربط هذه المشاريع بشبكات الطاقة الأوروبية.
إضافة إلى ذلك، يمكن أن تساهم فرنسا فى تحديث البنية التحتية السورية، بدءًا من تطوير الموانئ السورية، مثل طرطوس واللاذقية، وصولًا إلى مشاريع الرّبط الكهربائى بين سوريا والدول المجاورة. هذا التعاون الاقتصادى سيمكّن فرنسا من تعزيز وجودها فى قطاع الطاقة العالمي، بالإضافة إلى دعم إعادة الإعمار من خلال مشاريع البناء والصناعة التى تشمل تطوير المصانع والمرافق الإنتاجية. ستعزز فرنسا من خلال هذه المشاريع، موقعها الاستراتيجى فى المنطقة.
فى الختام، تظهر حصيلة العقد الأخير أن العلاقات السورية-الفرنسية بقيت رهينة الصراع السوري. اتخذت فرنسا موقفًا أخلاقيًا صارمًا تجاه النظام السورى سياسيًا وقانونيًا، وحاولت استخدام نفوذها الأوروبى لتحقيق انتقال ديمقراطى يحفظ كرامة السوريين.
وبينما لم تحقق هذه السياسة هدفها الأكبر (رحيل النظام أو تغيير سلوكه)، إلا أنها نجحت فى عزل النظام دوليًا وإبقائه تحت ضغط مستمر سياسيًا واقتصاديًا. وفتحت صفحة جديدة باستقبال الشرع فى قصر الإليزيه. فى الوقت نفسه، فتحت فرنسا أبواب التواصل الأمنى لضمان حماية أمنها القومى ومحاربة الإرهاب.
