في خضم المواجهة المستمرة بين روسيا وأوكرانيا، وبالتالي بين موسكو وأوروبا، برزت ألمانيا بوصفها قوة عسكرية أوروبية صاعدة، ليس فقط بحكم موقعها داخل حلف شمال الأطلسي، بل بسبب مواقفها النشطة المرتبطة بثلاث منظومات صاروخية باتت محور حديث العواصم الكبرى: باتريوت، تاوروس، وتايفون.
هذه الترسانة لا تعكس فقط تحولًا متسارعًا في العقيدة الدفاعية الألمانية، بل تكشف أيضًا عن سعي برلين إلى تحقيق توازن دقيق بين دعم كييف وتفادي الانزلاق إلى مواجهة مباشرة مع موسكو.
باتريوت: درع برلين الحديدي
منظومة "باتريوت" الأمريكية، المعروفة بقدراتها العالية في اعتراض الطائرات والصواريخ الباليستية، باتت أحد أبرز رموز الدعم الألماني لأوكرانيا. فبعد امتلاكها 12 بطارية، تبرعت ألمانيا بثلاث منها لكييف خلال عامي 2023 و2024، إلى جانب نشر اثنتين على الحدود البولندية، وواحدة مخصصة للتدريب والصيانة.
وفي منتصف يوليو الجاري، أعلن وزير الدفاع الألماني بوريس بيستوريوس، خلال زيارة لواشنطن، أن بلاده في طريقها لاتخاذ قرار نهائي بشأن إرسال بطاريتين إضافيتين، في إطار تعاون ثلاثي مع الولايات المتحدة ونرويج ودول أوروبية أخرى، بحسب ما نقلت "رويترز".
وأشار الوزير أيضًا إلى خطة لتوطين إنتاج صواريخ باتريوت داخل ألمانيا بحلول 2026، دعمًا لاستقلالية الصناعة الدفاعية وتوفير إمدادات مستدامة لأوكرانيا. بالتوازي، أكدت "واشنطن بوست" أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مستعد لتزويد كييف بمزيد من منظومات باتريوت، شرط أن يتكفل الأوروبيون بكلفة الإنتاج والنقل.
تاوروس: السلاح الذي ترفضه برلين
رغم مطالب كييف المتكررة، لا تزال الحكومة الألمانية ترفض تزويدها بصواريخ "تاوروس" البعيدة المدى، القادرة على ضرب أهداف تصل إلى 500 كيلومتر.
وترى برلين أن تسليم هذه الصواريخ يمكن أن يُفسر كتصعيد مباشر، خصوصًا إذا استُخدمت لضرب العمق الروسي. كما حذّر الكرملين مرارًا من عواقب ذلك.
ووفقًا لصحيفة "الجارديان"، فإن التردد الألماني يعود لأسباب سياسية وفنية، أبرزها القلق من أن تحتاج أوكرانيا إلى دعم تقني مباشر لتشغيل الصواريخ، وهو ما قد يُحمّل برلين مسؤولية قانونية عن العمليات التي تتم بها.
وبدلًا من توريد تاوروس، أعلنت ألمانيا عن مشروع مشترك مع كييف لتطوير صواريخ بعيدة المدى محليًا، على أن تُسلَّم الدفعة الأولى بحلول نهاية يوليو، ضمن حزمة مساعدات تبلغ نحو 800 مليون يورو.
تايفون: رهان مؤقت لملء الفراغ الصاروخي
في ظل غياب منظومة أوروبية هجومية جاهزة، تتجه ألمانيا نحو شراء منظومات "تايفون" الأمريكية، القادرة على إطلاق صواريخ يصل مداها إلى ألفي كيلومتر. وتُعد هذه المنظومة ركيزة مؤقتة لسد فجوة القدرات الأوروبية حتى تطوير مشاريع مستقلة بحلول ما بعد عام 2030.
وذكر موقع "كييف إندبندنت" أن برلين تسعى لإبرام صفقة شراء ضمن خطة لرفع إنفاقها العسكري إلى 3.5% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2029، وهو أعلى مستوى منذ نهاية الحرب الباردة.
دعم محسوب وتورط مدروس
تحوّل ألمانيا إلى قوة عسكرية فاعلة داخل الناتو لا يمكن عزله عن تغييرات بنيوية فرضتها الحرب في أوكرانيا على السياسات الدفاعية الأوروبية.
ورغم دعمها الثابت لكييف، تحرص برلين على تجنب التصعيد المباشر مع روسيا. ومن هنا، فإن قرارات التسليح الألمانية، سواء كانت بالتوريد أو الامتناع، تمر دائمًا عبر ميزان دقيق يراعي الحاجة الدفاعية لأوكرانيا، ومصلحة الأمن الأوروبي، وتوازنات الداخل الألماني.
رسالة ألمانيا واضحة: "نعم" للدعم العسكري، و"لا" للانخراط المباشر في الحرب. وهو موقف يُعزز دورها كقوة استراتيجية حذرة، تسعى إلى قيادة أوروبية لا تعتمد فقط على السلاح، بل على حسابات دقيقة للردع والاستقرار.