أخبار عاجلة

كيف نسيطر على فوضى الشارع؟

كيف نسيطر على فوضى الشارع؟
كيف نسيطر على فوضى الشارع؟

كل ما نراه اليوم من انفلات وفوضى في الشارع المصري من بلطجة، وترويج للمواد المخدرة، وعدم احترام لقواعد السير والنظام العام — ليست مجرد ظواهر عابرة أو تصرفات فردية، بل هي نتائج لتراكمات وأخطاء قديمة، تعود جذورها إلى عقود مضت، وتحديدًا إلى مرحلة سياسية واجتماعية حرجة من عمر الوطن. إن محاولة علاج تلك الظواهر دون الرجوع إلى أسبابها الحقيقية هو كمن يداوي الحمى دون تشخيص العدوى.

تبدأ خيوط الأزمة الحقيقية في تسعينيات القرن الماضي، خلال فترة حكم الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، تلك الحقبة التي شهدت أخطر عمليات التفكيك التدريجي لمكونات الهوية الوطنية. ففي تلك السنوات، تم إضعاف رموز الاستقرار المجتمعي من معلم وفلاح، وهما الجناحان اللذان حملا منظومة القيم المصرية غير المكتوبة، من الاحترام والانضباط والتكافل والتربية.

وكانت الضربة الأولى بتعيين الدكتور حسين كامل بهاء الدين، وهو طبيب نساء وتوليد، وزيرًا للتربية والتعليم في أكتوبر 1991، حيث استمر في منصبه حتى يوليو 2004، أي لمدة 13 عامًا كاملة. خلال تلك الفترة، اتخذ الوزير سلسلة قرارات كان أخطرها إلغاء سلطة المعلم في العقاب والتأديب، ومنع أي شكل من أشكال العقوبة داخل المدرسة. هذه القرارات — وإن بُرّرت وقتها بأنها "إصلاحية" تسببت في انهيار كامل للانضباط المدرسي، وظهور أجيال لا تعرف احترام المعلم ولا تقدير المدرسة.

فقدت العلاقة بين الطالب والمعلم معناها الأصيل، وتحوّل دور المربي إلى موظف مرهَق بلا أدوات، وانهارت الهيبة التي كانت تحيط بالمدرس، ذلك الذي كان يُنظر إليه كأبٍ ومُوجّه ومصدر احترام وقدوة. ومع غياب هذه العلاقة، تسللت الفوضى من المدرسة إلى الشارع، ومن الشارع إلى البيت، وتحوّل الانفلات السلوكي إلى ثقافة عامة تتوارثها الأجيال.

وفي عام 1997، صدرت الكارثة الثانية حين تم تمرير قانون تنظيم العلاقة بين المالك والمستأجر في الأراضي الزراعية، والذي عُرف وقتها بـ"قانون طرد الفلاح". أُجبر بموجبه أكثر من 2 مليون فلاح مصري على الخروج من أرضه التي عاش فيها وأنتج وأطعم مصر من خيراتها. وكان الفلاح — إلى جانب المعلم — أحد ركائز المجتمع المصري، ليس كمهنة فقط، بل كحامل لثقافة الريف، وضابط لإيقاع المجتمع من حيث احترام الكبير، وتماسك العائلة، وحكمة الأجداد، والرجولة والانضباط.

طرد الفلاح من أرضه حوّل تلك الكتلة البشرية إلى وقود للتهميش والتطرف والإدمان والبلطجة، وامتلأت العشوائيات والحواري بأبناء كانوا يومًا العمود الفقري للريف المصري. ومع غياب المعلّم الحقيقي، وتدمير الفلاح، انهارت القاعدة الأخلاقية والاجتماعية التي كانت تسند مصر. وظهر بديل خطير تمثل في مركبة "التوكتوك"، تلك الآلة الشيطانية التي أصبحت وسيلة للفوضى ونقل السموم وتفريغ الغضب المكبوت في شكل بلطجة وتمرد على القانون. ثم جاءت لحظة الانفجار الكبرى في يناير 2011، لكن علينا أن نفهم أنها لم تكن مفاجئة، بل نتيجة طبيعية لكل ما سبق.

رغم كل هذا الخراب التدريجي، لم تنهر مصر بالكامل، لسببين اثنين: قوة الدفع الاجتماعي التي مثلتها العائلات الكبيرة في المدن والقرى، والتي حافظت على قيم الاحترام والتوازن داخل مجتمعاتها المحلية، وجهاز أمن الدولة (الأمن الوطني حاليًا)، والذي كان وما زال جهازًا وطنيًا قويًا، له هيبة، ويحظى بثقة المواطنين، ونجح في ضبط الإيقاع الأمني للدولة دون أن يتلوث بالفساد أو المجاملات. لكن بعد 2011، تم محاولة تفكيك هذا الجهاز واضعافه وتهميشه، وحرق مقراته، وتشويهه إعلاميًا، ففقدت الدولة ذراعها الأمنية الأهم، وارتفعت موجة الانفلات بلا رادع.

ما نعيشه اليوم ليس مجرد أزمة بلطجة، أو اختناق مروري، أو انتشار مخدرات، بل هو حرب سيبرانية غير تقليدية يتم استخدام الظواهر المذكورة، لكي تستهدف الدولة من الداخل عبر تفكيك نسيجها القيمي.

ولذلك فإن حماية مصر تتطلب قرارات حاسمة

أولها إعادة الاعتبار الكامل للمعلم، من خلال إصدار قانون يُعيد له حصانته ومكانته وهيبته، وتغيير المسمى الوظيفي إلى "المربي والمعلم"، ورفع راتبه ليعكس قيمته الاجتماعية، وتشكيل لجنة رئاسية تضم خبراء في التربية والاجتماع والقانون لوضع خطة تطوير متكاملة للمنظومة التعليمية، زمنًا ومضمونًا.

ثانيها هو تمكين جهاز الأمن الوطني من أداء دوره، بإطلاق يده في كل شبر من أرض مصر، ومنحه الصلاحيات اللازمة لضبط المجتمع، وسنّ قانون رادع مخصص لحفظ الأمن الداخلي والانضباط، مع تحديد مهام واضحة للجهاز وفق رقابة وطنية دقيقة.

هذا الجهاز الوطني لم يعرف في تاريخه الفساد أو المحسوبية، بل ظل يعمل بتجرد من أجل الوطن فقط الي وقتنا هذا، ويملك من الكفاءة والوعي ما يؤهله لضبط الشارع دون إساءة أو تجاوز.

مصر ليست بحاجة إلى شعارات، بل إلى أفعال وقوانين وخطط مدروسة، تعيد للدولة تماسكها، وللمجتمع وعيه، وللمستقبل أمانه.

إن مصر في حاجة إلى قانون رادع من أجل بناء لا قمع، من أجل إصلاح لا تقييد، من أجل الحفاظ على هوية وطن.

اقرأ أيضاًرؤية في موضوع القيمة الإيجارية

التدمير العميق

نظرة على المشهد (1)

إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق المشاط: نُثمن الدور الفاعل للسفير جاريث بايلي في دفع العلاقات الاقتصادية المصرية البريطانية على مدار السنوات الماضية
التالى السيطرة على حريق داخل دبى مول فى منطقة الشيخ زايد