
ليلى موسى: الحكومة الانتقالية لم تطلق تسمية الشهداء على ضحايا كنيسة مار إلياس.. تحطيم تمثال الشهداء فى حلب نابع من خلفية عقائدية تجد فى الفن شركًا بالله.. هناك استبدال أيديولوجية قومية بأخرى ثيوقراطية.. البعث كمنظومة ومنهجية وأسلوب حكم وإدارة ما زال حاضرًا ومؤثرًا بقوة
«هناك تناقض واضح لما يتم طرحه من أطروحات وأفكار لتعزيز الهوية الوطنية التي من خلالها تحقق بموجبها الانتماء الوطني، وما يمارس من إجراءات تكرس حالة اللاهوية واللاوطنية وتعميق من حالة الاغتراب»
مؤخرًا، شهدت سوريا بعضا من الإجراءات والممارسات مثل إطلاق الهوية البصرية السورية وتحطيم تمثال الشهداء في ساحة سعد الله جابر بحلب، وكذلك سرقة السيف من تمثال صلاح الدين الأيوبي بدمشق، وغيرها من الممارسات التي شملت بعضًا من الأماكن والمعابد الأثرية في مختلف المدن السورية، بذريعة تحسين المظهر العام وتشكيل الهوية السورية الجامعة، وبذلك تنهي كل شيء يمت إلى زمن النظام البائد، وتدعي السلطة المؤقتة بأنها خطوة نحو توحيد سوريا موحدة لا تقبل القسمة والاقصاء والتهميش.
هذه الممارسات لم تأت من فراغ وإنما تأتي ضمن سلسلة إجراءات التي اتخذت من قبل الحكومة الانتقالية بدءًا من عقد مؤتمر النصر ومرورًا بآليات ومعايير تشكيل لجنة الحوار ولجنة إعداد الدستور المؤقت والإقرار به وما تضمنه من مواد بدءًا من اسم الدولة وسلطات الرئيس ومصدر التشريع، وصولًا إلى تشكيل لجنة تعيين المجلس التشريعي «البرلمان» آخرها الإعلان عن الهوية البصرية. جميع هذه الإجراءات أسهمت في انقسام حاد في الشارع بين مؤيد ومعارض.
هذا ما يقود إلى طرح تساؤل، وهو هل مثل هذه الإجراءات تساهم في تعزيز الانتماء الوطني ومعالجة تداعيات النظام السابق من تهميش واقصاء وحالة الاغتراب، أم أنها بداية جديدة لمرحلة جديد من رحلة الاغتراب؟
يبدو أن هناك تناقضا واضحا لما يتم طرحه من أطروحات وأفكار لتعزيز الهوية الوطنية التي من خلالها تحقق بموجبها الانتماء الوطني، وما يمارس من إجراءات تكرس حالة اللاهوية واللاوطنية وتعميق من حالة الاغتراب.
عندما يتم الحديث عن الهوية الوطنية الجامعة، فهذا يفرض بأن تكون الهوية جامعة وشاملة وحاوية لجميع الهويات الفرعية التي تتكون منها الهوية السورية الجمعية وهي حالة تراكمية. وهذه الهوية الجمعية تجد ديمومتها استمراريتها وثرائها وقوتها بقوة وتعزيز هوياتها الفرعية في حالة ديالكتيكية مبنية على حالة تكاملية تراكمية وليس نفي الأخر القائم على الصهر والانكار والانحلال.
ما نجده أنه ثمة أزمة في منهجية الإدارة والتفكير، حيث المنهجية القائمة على الأحادية في الفكر ونفي الآخر. وهنا نجد تعزيز لهوية فرعية وفرضها على أنها الهوية الجمعية السورية، وتجد ديمومة استمراريتها في تحجيم وبل نفي الهويات الفرعية الأخرى.
حيث نشاهد في الحكومة الانتقالية التي لم تطلق تسمية الشهداء على ضحايا كنيسة مار إلياس دليل واضح في فرض معايير معينة ومن منطلق عقائدي بحت، ما يتناقض مع الحديث عن أن المواطنين متساوون في الحقوق والواجبات والحريات.
إجراء كهذا دفع ولأول مرة بالمسيحيين في سوريا لاتخاذ موقف سياسي حيال الحكومة المؤقتة، وهذا إن دل على شيء إنما يدخل على وصول القناعة لدى هؤلاء بأن هويتهم مهددة بخطر الاندثار.
والواقعة نفسها اليوم تسري على ما تعرض له تمثال الشهداء في ساحة سعد الله الجابري على الرغم من تبريرات محافظ حلب على أنه خطأ وسيتم محاسبة الفاعلين، ولكن الحقيقة من خلال متابعة طريقة تحطيم التمثال، ونقله، والتسجيلات الصوتية والفيديوهات التي وثقت عملية النقل المزعومة تؤكد بشكل قطعي بأنها عملية ممنهجة وأنها نابعة من خلفية عقائدية تجد في الفن شرك بالله، وأنه سيتم الاستعاضة عنه برموز وأشكال منسجمة مع تلك العقيدة الدينية، كما يطرح تساؤل مجددًا ما هي معايير تسمية الشهيد؟ وهل هي حكر على فئة دون غيرهم؟
تحت بند ثورة على كل ما يمت بصلة بالنظام البعثي يتطلب التخلص منه، لكن في الحقيقة ومن خلال المتابعة يتضح لنا بأن هذا النهج هو استمرارية لنهج البعث الذي عمل وبشكل ممنهج على استهداف الذاكرة الثقافية والحضارية والتاريخية لسوريا وفرض اللون البعثي الأحادي، وبالتالي خلق حالة من الاغتراب عن الهوية الجمعية السورية وممارسته الاستعلائية والحالة الفرضية الاقصائية عززت الانتماءات الفرعية والعصبية والعنصرية.
وما نشاهده هو استمرار لذلك النهج وأولها بنية نظام الحكم والتأكيد على المركزية الشديدة التي كانت أحد الفواعل الرئيسية لتفجر الأزمة السورية.
رحل النظام البعثي والهوية الوطنية السورية الجمعية المصطنعة بمنطقه، بينما الهويات الفرعية والجمعية الأصيلة باقية وتناضل، وتسمية الجمهورية العربية السورية تسمية جاء بها البعث وأقصت حالة التنوع العرقي للمجتمع السوري، وهناك إصرار على تخليدها وتمجيدها، وتحديد ديانة رئيس الحكومة مسلم سني ومصدر التشريع الفقه الإسلامي والقائمة تطول.
كل ذلك يشي بأن البعث من حيث منظومة حكمت سوريا كمنهجية وأسلوب حكم وإدارة ما زال حاضرًا ومؤثرًا بقوة، فقط هناك استبدال أيديولوجية قومية بأخرى ثيوقراطية.
السؤال الذي يطرح نفسه هل الثورة تحقق مبتغاها عندما تكون هناك ثورة على بنية نظام الحكم وطرح نظام ومشروع بديل؟ أم الثورة هي استبدال زمرة بزمرة أخرى؟ تقوم بالقضاء على كل ما هو موجود، «محو الذاكرة الجمعية السورية» مثلما عمل البعث بأن تاريخ سوريا بدأت معه؟
واليوم ما يتم تصديره بأن تاريخ سوريا يقتصر على بني أمية؟ ويتطلب إعادة تشكيل الذاكرة وفق الحكومة الانتقالية وما تحمله من أيديولوجية. في تناقض واضح لحقيقة تاريخ سوريا، مع أن تاريخ بني أمية جزء ومرحلة من تاريخ سوريا وليس كل تاريخها.
نعود لطرح تساؤلنا مجددًا هكذا نوع من الإجراءات هل تُعزز الانتماء الوطني أم رحلة اغتراب جديدة؟ عندما يطرح الهوية السورية البصرية، كهوية جمعية لكل السوريين أن يتم إطلاقها بعد توافقات وطنية جمعية وصياغة دستور وتشكيل حكومة نابعة من إرادة الشعب السوري وتاريخه وحضارته وليس من خلال عملية استيراد من ثقافة شعوب الأخرى، وهذه الإجراءات ما هي إلا حرق للمراحل وفرض أمر واقع على السوريين القبول به.
تجربة النظام البعثي التي استمرت 54 عامًا جديرة باستخلاص العبر والدروس منها، بأن هكذا نوع من المقاربات لا تجلب الاستقرار ولا الاستمرارية والخلود والأبدية وأن استمرت لعقود. وأن الهوية السورية الجمعية وبجميع هوياتها الفرعية عصية على الانصهار والانحلال، وأنها ربما نتيجة للقبضة الأمنية تدخل مرحلة الكمون لكنها تبقى حية ومتجددة وتعود قوية أكثر من السابق.
وتحقيق هوية سورية وطنية متماسكة قوية تحقق وتعزز من الانتماء الوطني الحقيقي بعيدًا عن البروبوجاندا والغوغاغية والديماجوجية يكون عبر الاعتراف وتعزيز الهويات الفرعية. بهذه الحالة فقط تنهي حالة الانقسام في الشارع السوري، ونقضي على ثقافة الكراهية والعنصرية، والعمل على صون النسيج المجتمعي والسلم الأهلي.
ممثلة مجلس سوريا الديمقراطي في مصر*
