أخبار عاجلة
أسعار الدينار الكويتى في مصر اليوم السبت -
أسعار الدواجن والبيض في مصر اليوم السبت -
أسعار الدواجن والبيض في مصر اليوم السبت -
أسعار اللحوم الحمراء اليوم السبت -

فؤاد حداد.. صوت الفقراء والمهمّشين فى ذاكرة الشعر المصرى

فؤاد حداد.. صوت الفقراء والمهمّشين فى ذاكرة الشعر المصرى
فؤاد حداد.. صوت الفقراء والمهمّشين فى ذاكرة الشعر المصرى
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى تاريخ الأدب المصرى الحديث، تبرز أسماء قليلة استطاعت أن تصوغ لغة جديدة تعبر عن نبض الناس وتاريخهم، وكان فؤاد حداد فى طليعتها. لم يكن شاعرًا تقليديًا يقف على مسافة من الحياة اليومية، بل عاشها بتفاصيلها، حزنها وفرحها، فكان شعره مرآة للمصريين البسطاء، يلتقط أصواتهم وهمساتهم ويعيد صياغتها ببلاغة قريبة من القلب. هذه القدرة جعلته أكثر من مجرد شاعر عامي، بل كان ضميرًا شعبيًا حيًا ظل حاضرًا فى وجدان الناس.

امتاز فؤاد حداد بلغة شعرية فريدة مزجت بين جمال البلاغة الكلاسيكية ودفء الوجدان الشعبي. لم تكن العامية عنده لغة بسيطة فحسب، بل كانت وسيلة فنية عميقة تكشف ما يختبئ خلف الكلمات من أحلام وآلام. كتب عن العامل والفلاح والمحب والمهمش، وكتب عن الوطن بكل ما يحمله من أمل وألم، فاستطاع أن يجعل شعره وثيقة وجدانية لحقبة كاملة من تاريخ المصريين.

 أثبت أن الكلمة الصادقة قادرة على صنع ذاكرة جمعية لا تُمحى لتظل تجربته علامة مضيئة فى مسار الأدب المصرى الحديث  وظّف الموروث الدينى والمأثور الصوفى فى شعره ليعطيه أبعادًا روحية وفكرية أعمق

 

صفوف اليسار

بدأ فؤاد حدّاد النشاط الأدبيّ مواكباً لنشاطه السياسيّ فى صفوف اليسار، عام ١٩٤٤ وهو مازال تلميذاً بالمدرسة، وكان ينشر قصائده فى الدوريّات الأدبيّة والصحف الحزبيّة، وصدر أوّل دواوينه عام ١٩٥٢ تحت اسم «أحرار وراء القضبان» وكان اسمه فى الأساس «أفرجوا عن المسجونين السياسيّين» تعبيراً عن موقف وطنى وسياسى واضح.

تعرض فؤاد حدّاد للاعتقال للمرّة الأولى من عام ١٩٥٣ إلى ١٩٥٦ وقد أفرج عنه لمدّة شهرين فقط عام ١٩٥٤، وخرج من المعتقل ليكتب كما لم يكتب من قبل، وصدر ديوانه الثانى «حنبْنى السدّ»، وكتب بعدها محتفياً بكل حركات التحرّر الوطنيّ من كلّ أنحاء العالم. ثم اعتُقل للمرّة الثانية من أبريل ١٩٥٩ إلى أبريل ١٩٦٤، وخلال تلك السنوات الخمس كتب كثيراً رغم التعذيب والقهر، وتفجّرت بداخله طاقاتٌ فذّة وصنعتْ تراثاً فريداً، بعد أن قرّر أن يكتب كلّ يوم قصيدة ليرفع من الروح المعنويّة لزملائه.

 

تجربة شعرية غير مسبوقة فى العامية المصرية

ومنذ خمسينيات القرن العشرين، شكلت قصائد فؤاد حداد مع رفيق دربه صلاح جاهين نواة لتجربة شعرية غير مسبوقة فى العامية المصرية. كانت العلاقة بينهما مزيجًا من التكامل والتنافس الصحي؛ إذ جمع حداد العمق الفلسفى والبعد الروحي، بينما أضفى جاهين خفة الظل والقدرة على التقاط التفاصيل اليومية. هذا التفاعل أنتج مدرسة شعرية عُرفت بـ"مدرسة حداد-جاهين"، التى أحدثت نقلة نوعية فى مكانة الشعر العامي.

لم يتوقف تأثير فؤاد حداد عند حدود جيله، بل ترك إرثًا شعريًا واسعًا سار على خطاه شعراء مثل ابنه أمين حداد وأحمد فؤاد نجم وغيرهما. كما وجدت قصائده طريقها إلى الفرق الموسيقية المستقلة ومسرح الشارع والغناء البديل، لتظل كلماته حاضرة حتى بعد رحيله فى ١٩٨٥. لقد تحولت نصوصه إلى مادة إبداعية يتجدد حضورها فى الفنون المختلفة، مؤكدة أن الشعر الصادق لا يموت.

ربما لم تحظَ صورة فؤاد حداد باللمعان الإعلامى الذى حظى به غيره، لكنه رسّخ نفسه بعمق فى وجدان الناس. عاش الوطن فى قصائده ولم يتاجر به، وبقى حاضرًا كأيقونة وطنية وإنسانية خفية. لقد أثبت أن الشعر العامى قادر على أن يكون وثيقة تاريخية وجمالية فى آن، وأن الكلمة الصادقة قادرة على صنع ذاكرة جمعية لا تمحى، لتظل تجربته علامة مضيئة فى مسار الأدب المصرى الحديث.

النشأة والتكوين الثقافي

وُلد فؤاد حداد عام ١٩٢٧ فى حى الظاهر بالقاهرة لعائلة لبنانية مارونية كانت قد هاجرت إلى مصر فى بدايات القرن العشرين، وهو ما أكسبه منذ البداية خصوصية ثقافية مزدوجة. فقد نشأ فى بيئة تحمل ملامح المشرق العربى المسيحى من جهة، وروح المجتمع المصرى المتنوع من جهة أخرى. هذا التكوين جعل أفقه الفكرى والوجدانى واسعًا منذ طفولته، حيث كان يرى فى القاهرة مدينة متعددة الثقافات والانتماءات.

نشأ حداد فى بيت ناطق باللغة الفرنسية، وهى اللغة التى استخدمتها أسرته فى الحياة اليومية والتواصل. هذا الانفتاح المبكر على لغة وثقافة غربية منحه رصيدًا معرفيًا مختلفًا عن أقرانه فى سنه، لكنه فى الوقت نفسه شعر بمسافة بين هذه اللغة وبين وجدان الناس من حوله. كان يسمع أصوات الشارع المصرى بلهجته البسيطة والمباشرة، ما خلق لديه إحساسًا مبكرًا بضرورة البحث عن لغة قادرة على التعبير عن حياة هؤلاء الناس.

رغم أن الفرنسية كانت لغته الأولى، اختار فؤاد حداد لاحقًا العربية لغة للكتابة، ولم يكتفِ بذلك، بل انحاز إلى العامية المصرية تحديدًا. كان هذا التحول قرارًا ثقافيًا وفكريًا عميقًا أكثر منه مجرد اختيار لغوي، إذ أدرك أن العامية المصرية بما تحمله من موسيقى وإيقاع تعبّر عن وجدان الشعب ووعيه اليومي. ومن هنا بدأ فى صياغة مشروعه الشعرى الذى يمزج بين بساطة التعبير وعمق المعنى.

هذا الانحياز إلى اللغة الشعبية جسّد فى جوهره انتماء فؤاد حداد إلى الناس والشارع المصري. لم يكن شاعرًا يكتب من برج عاجٍ، بل كان يرى نفسه صوتًا لهذا الوجدان الجمعى الذى يعبر عن الفقراء والمهمشين والطبقات البسيطة. ومن خلال شعره بالعربية العامية، أصبح حداد جزءًا من النسيج الثقافى المصري، يعكس نبض الحياة اليومية فى قوالب شعرية محملة بالصور العاطفية والسياسية والاجتماعية.

يقول فى قصيدة "مصر دايماً مصر"

يا دعاء المؤمنين

فجر بينوّر سنين

يا أحن من الحنين

مصر دايماً مصر

أم كل الإنسانيه

تقسم اللقمه الهنيه

العمل والرزق نيه

مصر دايماً مصر

أم فلاحها اللى قادر

يسقى كل الأرض حاضر

والغيطان تطرح بنادر

مصر دايماً مصر

أم فنانها اللى راسم

عقد لولى وسن باسم

قلب أخضر فى المواسم

مصر دايماً مصر

أم أبطالها البواسل

والأمل للفجر واصل

ينطلق يثبت يواصل

مصر دايماً مصر

أم أولادها الملاح

فى المعارك والسلاح

سينا يا حى الفلاح

مصر دايماً مصر

الشعر العامى كأداة وعي

فى تجربة فؤاد حداد الشعرية، كان الشعر العامى أداة فاعلة لتجاوز حدود الجماليات اللفظية إلى مجال أوسع يمسّ الوعى الجمعي. فقد أدرك حداد مبكرًا أن العامية ليست مجرد لغة يومية، بل وسيلة للتأثير المباشر فى الناس، إذ تلامس وجدانهم بلا حواجز لغوية أو ثقافية. هذا الإدراك جعله يختار التعبير بالعامية المصرية ليصل إلى أوسع شريحة ممكنة من الجمهور، ويحوّل قصيدته إلى صوت الشارع المصرى ومرايا همومه وأحلامه.

 

شهادات حيّة على لحظات فارقة فى التاريخ المصري

 

قصائد حداد لم تكن مجرد غنائية رومانسية أو تأملات ذاتية، بل تحوّلت إلى شهادات حيّة على لحظات فارقة فى التاريخ المصري. كتب عن العدوان الثلاثى وما تركه من جرح وطني، ورثى النكسة بما حملته من انكسار عام، ثم احتفى بالنصر فى حرب ١٩٧٣ وما مثّله من استعادة للكرامة الوطنية. كما لم يغفل معارك المصريين اليومية مع لقمة العيش والبحث عن حياة كريمة، وهو ما منح شعره عمقًا اجتماعيًا وسياسيًا يتجاوز حدود القصيدة التقليدية.

اعتمد حداد فى صياغة عالمه الشعرى على التراث الشعبى المصرى الذى نهل منه صورًا ومعانى قريبة من وجدان الناس. فاستعار الأغانى الشعبية والأمثال والحكايات المتوارثة، ليبنى لغة شعرية مألوفة لكنها تحمل أبعادًا جديدة. هذا الارتباط بالتراث الشعبى أضفى على قصيدته صدقًا ونكهة خاصة، جعلتها تبدو امتدادًا للذاكرة الجماعية لا نصوصًا معزولة عنها.

كما وظّف الموروث الدينى والمأثور الصوفى فى شعره ليعطيه أبعادًا روحية وفكرية أعمق. فقد كان قادرًا على استدعاء الرموز القرآنية والأحاديث النبوية والإشارات الصوفية بذكاء، بحيث تضيء النص وتثريه دون أن تخرجه عن بساطته الظاهرة. بهذا المزج بين الروحى واليومي، بين الشعبى والسياسي، صنع حداد لغة شعرية مميّزة تلامس القلب والعقل فى آنٍ معًا، وتحوّل شعره إلى أداة وعى ومقاومة فى مواجهة تحديات عصره.

ومن أهم القصائد التى تمثل هذه الحالة قصيدة "ازرع كل الأرض مقاومة"

ازرع كل الأرض مقاومه

ترمى فى كل الأرض جدور

إن كان ظلمه تمد النور

وان كان سجن تهد السور

كون البادئ كون البادئ

كل فروع الحق بنادق

غير الدم ماحدش صادق

من أيام الوطن اللاجئ

إلى يوم الوطن المنصور

ازرع كل الأرض مقاومه

خلى الأصل وخلى الدين

والحق الواحد شاهدين

خلى سلاحنا فى كل يمين

ولا يضعف ولا عمره يلين

خلى الصبر شهور وسنين

يسند ظهر معديين

خلى عرقنا يلاقى جبين

يقطر منه على فلسطين

وعيدان الحى الجايين

ينبتوا فى الوطن المنصور

ازرع كل الأرض مقاومه

يا اللى جراحك والده جراح

خلى فى يد الجندى سلاح

زى العامل والفلاح

زى الثوره والإصلاح

ولا يقدر مؤمن يرتاح

ولا يفرح ويا الأفراح

ولا يفرد على عشه جناح

ولا يلقى أولاده ملاح

ولا يعرف فى الدنيا صباح

إلا فى الوطن المنصور

ازرع كل الأرض مقاومه

التعاون مع فرقة "ولاد الأرض" وتجربة "المسحراتي"

يعدّ تعاون فؤاد حداد مع فرقة "ولاد الأرض" وتجربة "المسحراتي" من أبرز محطاته الثقافية والإبداعية التى تركت أثرًا واسعًا فى الوجدان المصري. فقد كان يؤمن بأن الكلمة الشعرية لا تكتمل إلا عندما تجد طريقها إلى الناس عبر أشكال فنية متجددة، وهذا ما وجده فى التعاون مع الفرق الفنية والإذاعة والتلفزيون. "ولاد الأرض" كانت فرقة ملتزمة تنقل هموم الشعب وأحلامه، وقد شكّل التعاون معها مساحة خصبة لحداد ليقدّم أشعاره فى قالب جماعى يعزّز رسالته.

أما تجربة "المسحراتي"، التى ارتبطت بصوت الفنان سيد مكاوي، فقد كانت من الأعمال التى جمعت بين البساطة الشعبية والعمق الفكري. كتب حداد النصوص الشعرية لهذا العمل بلغة عامية قريبة من الناس، فيما أضفى سيد مكاوى بصوته الشجى وألحانه الحيوية روحًا مميزة على الكلمات. ومع مرور السنوات، تحوّل "المسحراتي" إلى أيقونة رمضانية تتردد فى كل بيت مصري، حاملة مزيجًا من الطقوس والذاكرة الشعبية.

ما ميّز هذه التجربة أيضًا هو قدرة حداد على المزج بين التراث المصرى العريق وروح السخرية والنقد الاجتماعي. فقد استخدم شخصية "المسحراتي" كوسيط ينقل رسائل مبطّنة عن القضايا اليومية والسياسية والاقتصادية التى يعيشها المجتمع، لكن دون مباشرة فجة. هذا الأسلوب أتاح له أن يخاطب كل بيت مصرى بطريقة خفيفة الظل، تحمل بين طياتها وعيًا نقديًا عميقًا.

بفضل هذه الأعمال، استطاع حداد أن يرسخ مكانته كشاعر قادر على تجاوز حدود النص المكتوب إلى فضاء الثقافة الشعبية. فقد أصبحت قصائده فى "المسحراتي" جزءًا من الذاكرة الجماعية، تُستعاد مع كل رمضان، وتذكّر الأجيال المختلفة بأن الكلمة المبدعة يمكن أن تكون وسيلة للتواصل، والترفيه، وفى الوقت نفسه النقد والتغيير الاجتماعي.

ويقول فى المسحراتي:

مســحـراتى

مـنـقـراتى

بعد الصلاةِ

على نبينا

باقول يا هادى

العقل زينه

الله هادينا

ع الندهه جينا

على ريح حجازى

سقنا الهجينه

الله يجازى

اللى يهاجينا

أنا قلت نخلى

أحسن مناخ لى

حط السفينه

دا نخيل سباطُه

قطع رباطُه

خد تحت باطه

كل المدينه

حمام بلدنا

زغلول بلحنا

فرد جناحنا

على وادينا

وكان فلاحنا

دنيا ودينا

بتنا وصبحنا

أحرار وادينا

ليلنا وصباحنا

عرسان عرايس

نقيم فرحنا

وولاد مدارس

يكمل نجاحنا

وعرب فوارس

نقول فتحنا

فتحاًَ مبينا

أنا قلت سجده

للهِ سجده

لعدوى سكته

الرؤيه ثابته  والمشى طاب لى

والدق على طبلى

ناس كانوا قبلى

قالوا فى الأمثال:

"الرجل تدب مطرح ماتحب"

بوصلة الوجدان الشعبي

ارتبط فؤاد حداد منذ بداياته بالشريحة الأوسع من المجتمع، تلك التى غالبًا ما يتم تهميشها فى الخطاب الثقافى الرسمي. كتب عن العامل الذى يكابد يومه بحثًا عن لقمة العيش، وعن الفلاح الذى يشقى فى الأرض، وعن المسجون الذى يواجه قسوة الظلم، وعن الغريب الذى يفتقد الانتماء، وعن العاشق الذى يسكنه الحنين. هذه الشخصيات لم تكن بالنسبة له موضوعات شعرية مجردة، بل كانت تعبيرًا حيًا عن مصر الحقيقية، مصر الناس البسطاء الذين يشكّلون قلب الوطن وروحه.

فى قصائده، استحضر حداد فضاءات الحياة اليومية التى يعرفها كل مصري: الحارة الضيقة بأصواتها وضجيجها، المقهى الشعبى الذى يجتمع فيه العمال والحرفيون، والمصنع الذى يتردد فيه صدى الآلات إلى جانب صدى التعب الإنساني. لم يكتب عن هذه الأمكنة من موقع المراقب البعيد، بل كان جزءًا منها، يعرف تفاصيلها الدقيقة وملامحها الإنسانية، وهو ما منح شعره صدقًا ودفئًا ميزاه عن غيره من شعراء جيله.

لم يكن حداد شاعرًا يعتلى منبرًا فوق الناس أو يتعالى عليهم، بل كان واحدًا منهم، يشاركهم أفراحهم وأحزانهم. هذه البساطة والتواضع جعلت كلماته قريبة من القلب، سهلة الحفظ والترديد، فظل شعره حيًا فى الذاكرة الثقافية المصرية حتى بعد رحيله. قصائده لم تُقرأ فقط فى الكتب، بل أُنشِدت وغُنِّيت وترددت فى الحوارى والميادين، مما عزز حضورها فى الوجدان الشعبي، لتؤكد أن حداد لم يكن مجرد شاعر كتب عن المهمّشين، بل كان بوصلة وجدانهم التى ترشدهم فى لحظات التحوّل الكبرى.

إرث فؤاد حداد وامتداده فى الأجيال الجديدة

لم يتوقف تأثير فؤاد حداد برحيله عام ١٩٨٥، بل ترك وراءه مدرسة شعرية كاملة استطاعت أن تؤسس لتيار متجذر فى وجدان الناس. هذه المدرسة لم تكن مجرد تقليد لشعره، بل حملت روحه ولغته الخاصة التى جمعت بين البساطة والعمق، وبين الحس الشعبى والنبرة الإنسانية العالية. لقد أصبح حداد نموذجًا يحتذى به لكل شاعر يسعى للكتابة عن الناس لا عنهم فقط.

سار على درب فؤاد حداد عدد من الشعراء الذين وجدوا فى تجربته مصدر إلهام دائم، وعلى رأسهم ابنه الشاعر أمين حداد الذى حمل الراية بطريقته الخاصة، وكذلك أحمد فؤاد نجم الذى كان رفيق كفاحه وصوته الموازى فى التعبير عن المهمشين. وإلى جانب هؤلاء ظهر جيل جديد من شعراء العامية الذين تأثروا بالنبرة الصافية لشعره وبقربه من الناس، فواصلوا مسيرة ربط الشعر بالهمّ الاجتماعى والوطني.

لم يقتصر إرث فؤاد حداد على الشعر المكتوب، بل امتد إلى الفنون الأخرى، حيث استعادت الفرق الموسيقية المستقلة نصوصه فى أغانيها، لما تحمله من صدق إنسانى وقرب من روح الشارع المصري. كذلك وجدت نصوصه طريقها إلى مسرح الشارع والمبادرات الثقافية البديلة، التى رأت فى أشعاره مادة غنية قادرة على التواصل مع جمهور واسع وبأشكال فنية مبتكرة.

كل هذه الامتدادات جعلت فؤاد حداد شاعرًا حاضرًا رغم مرور عقود على رحيله. فقصائده لا تزال تتردد فى الساحات الفنية والثقافية، وتستعاد فى المناسبات الوطنية والاجتماعية، وكأنها كُتبت اليوم. لقد تحوّل إلى أيقونة ثقافية تحمل رسالة واضحة: أن الشعر الصادق الذى ينحاز إلى الناس لا يموت، بل يظل يتجدد فى كل جيل.

علاقته بصلاح جاهين ومدرسة شعر العامية

جمعت فؤاد حداد وصلاح جاهين علاقة تتجاوز حدود الزمالة الشعرية إلى صداقة إنسانية متينة. كلاهما كان يحمل هَمّ الناس فى قلبه، ويؤمن بأن الشعر العامى وسيلة للتعبير عن وجدان المصريين العاديين. جلساتهما الممتدة فى المقاهى والبيوت كانت بمثابة مختبر إبداعي، يتبادلان فيها الأفكار والقصائد ويختبران وقعها على الناس. هذه الصداقة الإنسانية انعكست بوضوح على إنتاجهما الشعري، فكان كل منهما يكمّل الآخر.

ساهم الاثنان فى تأسيس ما يمكن تسميته بـ"مدرسة حداد-جاهين"، وهى مدرسة أعادت تعريف الشعر العامى المصري. جمع فؤاد حداد بين العمق الفلسفى والبعد الصوفى فى صياغة بسيطة، بينما كان جاهين أكثر قدرة على التقاط التفاصيل اليومية وإعادة صياغتها بشكل ساخر ومرح. هذا المزج بين الجدية والمرح، بين الروح الشعبية والبعد الثقافي، جعل شعر العامية ينتقل إلى مرحلة جديدة أكثر نضجًا وتأثيرًا.

رغم التقارب الإبداعى بينهما، لم تخلُ العلاقة من روح التنافس التى كانت صحية ودافعة. كان كل منهما يدرك مكانة الآخر، ويسعى لتقديم ما يميز صوته الشعري. لكن هذا التنافس لم يكن عداوة، بل كان تكاملاً؛ فحين يميل شعر حداد إلى العمق والجدية، كان جاهين يوازن ذلك بخفة ظله وسهولة عبارته، مما ساعد على توسيع جمهور شعر العامية بين مختلف شرائح المجتمع.

أثمر هذا اللقاء الفنى بين فؤاد حداد وصلاح جاهين عن إرث شعرى ضخم شكل حجر الأساس للأجيال التالية من شعراء العامية. لقد رسّخا معًا فكرة أن الشعر العامى ليس مجرد تعبير بسيط عن الحياة اليومية، بل أداة ثقافية وفنية قادرة على حمل القضايا الكبرى. هذا الإرث ما زال حيًا، إذ يستلهم شعراء اليوم روح هذه المدرسة التى جمعت بين صدق الكلمة وعمق التجربة الإنسانية.

رغم أن فؤاد حداد لم يحظَ بالظهور الإعلامى الكبير الذى حظى به آخرون، إلا أن ذلك لم يمنع حضوره القوى فى ذاكرة الناس. لم يسعَ فؤاد حداد إلى تلميع صورته أو تسويق نفسه، بل ترك كلماته تقوم بالمهمة وحدها. وهذا ما منحه مصداقية نادرة، وجعل الناس يرونه شاعرهم الأقرب، الذى يعبر عنهم بصدق لا يعرف المساومة أو التزييف.

ولهذا كله استحق فؤاد حداد أن يُلقب بـ"شاعر الوطن المخفي"، ذلك الذى لم يتاجر بالوطنية ولم يرفعها شعارًا، بل عاشها فى تفاصيل حياته وقصائده حتى آخر يوم فى عمره. لقد ترك إرثًا شعريًا خالدًا لا يموت، وذاكرة وجدانية محفورة فى الضمير الجمعي، لتظل كلماته دليلًا على أن الشعر الصادق لا ينتهى برحيل صاحبه، بل يبدأ حين يلتقى بقلوب الناس.

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق أسعار اللحوم البلدية والمستوردة في الأسواق
التالى نقابة الصحفيين المصريين تجدد إدانتها للجرائم الوحشية للعدوان الصهيوني في غزة