11 عامًا على رحيلك يا أبي والقلب ما زال يشتاق.. في ذكرى رحيله الحادية عشرة، نستعيد مع ابنته هند ذكريات وحكايات عن الفنان سعيد صالح، ذلك النجم الذي أضاء بموهبته وطيبة قلبه سماء الفن المصري، من بداياته في المسرح المدرسي، إلى صداقاته الفنية الأسطورية مع عادل إمام وصلاح السعدني، مروراً بصعوبات واجهها وتحولات غيرت مسيرته وحياته، وصولاً إلى إرثه الإنساني والفني الذي لا ينسى.
أسرار عطائه الفني الاستثنائي
التقت "البوابة نيوز" ابنته هند لتفتح قلبها وتحكي لنا عن "بابا سعيد" الإنسان قبل الفنان، عن أحلامه، علاقاته، وأسرار عطائه الفني الاستثنائي، وكيف ظل - رغم الغياب - حاضرًا في كل تفاصيل حياتها.
"الضحكة التي لا تزال تتردد في بيتنا.. والروح التي لم تغب عنا لحظة".. هكذا تتحدث عنه بكل حنين، فإلى نص الحوار.
هل المسرح المدرسي كان البداية الفنية للفنان الراحل سعيد صالح أم المرحلة الجامعية؟
- الفنان سعيد صالح كان معروفًا بخفة ظله وحبه للمزاح منذ صغره، فكان دائمًا يداعب الناس ومن بينهم الفنان حسن يوسف أثناء زيارته لإحدى المدارس لاختيار طالب موهوب من فريق التمثيل للمشاركة معه في عرض مسرحي لا أتذكر اسمه الآن.
ومن المصادفات الجميلة أن سعيد صالح كان طالبًا في تلك المدرسة التي زارها حسن يوسف، كان والدي يختفي بعد مناداة حسن يوسف بقوله: "يا أستاذ يا بتاع التمثيل"، وعندما يلتفت حسن يوسف لا يجد أحدًا، تكرر هذا الموقف حتى لفت انتباه يوسف، فأمر بإحضار هذا الطالب المميز، وهكذا اكتشف الفنان حسن يوسف موهبة سعيد صالح، وشجعه على دخول عالم التمثيل.
ماهي الصعوبات التي واجهت الفنان سعيد صالح خلال مشواره الفني؟
- أعتقد أن الفنان سعيد صالح وزملاءه من جيله لم يواجهوا صعوبات كبيرة في مشوارهم الفني، لأن طبيعة تلك الفترة كانت مختلفة تمامًا عن الوقت الحالي.. في الماضي، كان التمثيل يعتمد أساسًا على الموهبة أو الدراسة، بعكس الآن حيث يوجد عدد كبير من الممثلين الحاليين مع محدودية الأعمال الفنية.
في ذلك العصر، كان عدد الممثلين أقل، وكانت الفرص متاحة للموهوبين أو خريجي معاهد الفنون، بينما كانت الأعمال الفنية - سواء في السينما أو المسرح أو التلفزيون أو الإذاعة - كثيرة ومتنوعة، وكان من المعتاد أن يقدم الممثل الواحد ما بين 20 إلى 30 عملًا فنيًا في العام الواحد.
سعيد صالح، بفضل كاريزميته وتميزه، لم يقف في طريقه أي عوائق، بل صعد السلم بثبات خطوة بخطوة حتى أصبح واحدًا من أبرز نجوم جيله، متفردًا بين أقرانه بموهبته الفذة وحضوره الطاغي.
مسرح التليفزيون كان بداية الصداقة بين الفنانين سعيد صالح وعادل إمام وامتدت هذه العلاقة على المستويين الفني والأسري حدثينا عن ذلك؟
- لقد جمعت بينهما صداقة متينة بدأت منذ أيام المدرسة والرحلات والكشافة، حيث تعرفا على بعضهما البعض وانضم إليهما الفنان صلاح السعدني ليكتمل الثلاثي. على الرغم من اختلاف شخصياتهم وتميز كل منهم بحضوره الفريد، إلا أن شيئاً ما جمعهم بقوة.
تحولت هذه الصداقة إلى مسيرة فنية مشتركة بدأت من مسرح التليفزيون، مروراً بمسرح القطاع الخاص والأدوار الصغيرة، حتى وصلوا إلى مرحلة التوهج والاحتراف. وقد أثمرت هذه الشراكة عن أعمال خالدة مثل مسرحية "مدرسة المشاغبين" وغيرها من الأعمال التي لم تُوثق.
استمرت هذه الصداقة الاستثنائية منذ الستينيات وحتى رحيل الفنان سعيد صالح في 2014، حيث تجاوزت حدود العمل الفني إلى الحياة الشخصية. فقد حرص الأصدقاء على أن يصبحوا جيراناً بعد الزواج، ليتمكنوا من التواصل من شرفات منازلهم. هذه العلاقة العميقة خارج الكاميرا أنتجت أعمالاً ثنائية ناجحة، وأصبحت نموذجاً للصداقة النادرة في الوسط الفني التي جمعت بين الإبداع والوفاء.
كيف استطاع الفنان سعيد صالح أن يقدم 500 عمل فني في مختلف القنوات الفنية سواء سينما ومسرح وتليفزيون؟
- يبدو أن الرقم 500 جاء على سبيل المجاز، إذ أن الحقيقة تؤكد أن الفنان سعيد صالح قدم أعمالا فنية تفوق هذا العدد بكثير، منذ بدايته الفنية وحتى تسعينيات القرن الماضي، كان نجم السينما بامتياز بينما خصص مساءاته للمسرح الذي كان بالنسبة له بمثابة "الأكسجين" الذي لا يستطيع العيش بدونه.
بدأت وتيرة أعماله تقل تدريجياً مع تقدم السن، بسبب ظهور علامات الإرهاق، لكن سر هذا الإنتاج الغزير يكمن في شغفه الفني، فكان يختار أعماله بدافع الحب أي حبه للدور، ولزملائه، واللوكيشن ولجو التصوير، وخاصةً لولعه الجامح بالمسرح.
كما قدم العديد من المشاركات القصيرة بدافع المجاملة لأصدقائه، مثل ظهوره في 3 حلقات من مسلسل "أحلام الفتى الطائر"، أو مشاركته في فيلم "أمير الظلام" مع صديقه عادل إمام "الذي كان أيضاً أول تجربة إخراجية لنجله رامي"، حيث تم تصوير مشاهده كلها في يوم واحد.
هناك أعمال أخرى له لم توثق أو تصور، أو عروض مسرحية توقفت بعد عرضها لمدة، كل هذه التفاصيل تفسر ذلك الإرث الفني الضخم الذي تركه الراحل الكبير، والذي كان دوماً يقدّم فنه بدافع الحب والإخلاص للفن ولأصدقائه.
من هم أبرز الفنانين الأكثر قرباً للفنان سعيد صالح؟
- كان والدي - رحمه الله - محبوباً بين كل أبناء الوسط الفني، لكن الفنان عهدي صادق كان الأقرب إلى قلبه، حتى أنهما كانا كالتوأم، كما جمعته علاقات وثيقة مع كبار فناني جيله مثل عادل إمام وصلاح السعدني وفاروق الفيشاوي، فكل أبناء ذلك الجيل العظيم كانوا كالعائلة الواحدة، تربطهم أواصر المودة والإخاء الفني والإنساني.
تعرض الفنان سعيد صالح للحبس لمدة عام.. كيف أثرت هذه الفترة على حياته؟
- لقد شكلت تلك الفترة صدمة كبيرة له ولأسرته ومحبيه، حيث وجد نفسه للمرة الأولى بعيداً عن عمله الفني وأسرته وجمهوره، إلا أن ما ميّز الفنان سعيد صالح كان قدرته الفائقة على التأقلم السريع مع المحيطين به وظروفه الجديدة، ففي بيئة السجن التي لم تكن مكانه الطبيعي، استطاع بناء علاقات طيبة مع المساجين وضباط السجن والإداريين، مما سهل عليه تحمل تلك الظروف الصعبة.
بدأ بتكوين حياة جديدة داخل السجن، من خلال مشاركته في الأنشطة مثل لعب الكرة، وبناء صداقات جديدة، وكانت نقطة التحول الحقيقية في حياته عندما تعرّف على العم "يوسف" الذي أحدث تغييراً جذرياً في حياته، كما ذكر في العديد من لقاءاته التلفزيونية، هذا الرجل الطيب أخذ بيده نحو التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، مما أدى إلى تحول عميق في شخصيته، لدرجة أنه خرج من السجن إنساناً جديداً بقلب مختلف وفكر متجدد.
حدثينا عن الفنان سعيد صالح الأب والجانب الإنساني في حياته؟
- كان والدي الفنان سعيد صالح - رحمه الله - في حياته الخاصة كما عرفه الجمهور على الشاشة والمسرح، إنساناً بسيطاً قريباً من الناس، يتفهم همومهم ويعيش بينهم كأحدهم، تخيلوا كيف كان حال ابنة تربت بين أحضان هذا الرجل الحنون الذي جعل من العطاء والإحساس بالآخرين منهج حياة.
لقد كان والدي عالمي الخاص، لم أدرك قيمة هباته التي لا تحصى إلا بعد فقده، لأنه جعل من حبه وحنانه شيئاً بديهياً في حياتي، كان مستمعاً صبوراً، محتضناً بقلبه الكبير، يمنحني وأهلي من الحب ما يفوق الوصف، لقد زرع فينا كل القيم النبيلة التي كان يحملها، فورثنا عنه حبه للناس ورقته في التعامل.
إنه ذلك الأب الاستثنائي الذي لم ولن أجد له مثيلاً، ترك في نفسي نموذجاً إنسانياً فريداً جمع بين البساطة والعظمة، بين الحنان والحكمة، بين الفنان العبقري والأب الحنون الذي لا يتكرر.
ماذا عن تراثه وأرشيفه الفني؟
- للأسف الشديد، لم يتبق أي أرشيف فني أو كتابي للفنان سعيد صالح سوى ما هو متداول عبر الإنترنت، فقد تعرض المنزل لحريق قبل شهر واحد فقط من رحيله، التهم كل ما فيه من مقتنيات ثمينة وذكريات عزيزة، لتبقى أعماله المتاحة إلكترونياً هي الشاهد الوحيد على إرثه الفني الثري.
هذه الكارثة أتت على كل شيء - الصور الشخصية، النصوص، المخطوطات، وكل الوثائق التي تمثل كنزاً ثميناً يحكي سيرة واحد من عمالقة الفن المصري، ولم يعد أمام محبيه سوى الذكريات وما تنقله الشاشات من أعماله الخالدة.
لو الفنان سعيد صالح عايش بينا الآن ماذا تقولين له؟
مرت 11 عاماً على رحيل والدي الفنان سعيد صالح، لكنه لم يغب عني لحظة واحدة. سواء في فرحي أو حزني، وأنا أُودع أبنائي للمدرسة، أو أذاكر معهم، أو أرافقهم للتمرين، أشعر بأن روحه تحاوطني. أحياناً أجلس وحدي وأحدثه كأنه بيني وبين نفسي.. لكن اليوم أقول له بكل حنين: "وحشتني يا أبي، وأنا محتاجة لوجودك".
أدعو له من أعماق قلبي، وأتمنى من كل من يقرأ هذه الكلمات أن يترحم عليه ويدعو له، فما زال نوره معنا رغم الغياب.
