لم يكن عمره قد تجاوز التاسعة حين وقف لأول مرة على العشب الأخضر، حافي القدمين، لكنه ممتلئ بالإيمان.. ركض كأنه يطارد غيمة، ضحك كأنه يملك الدنيا، وسدد الكرة كما لو كان يرد بها على الحياة التي ما دام همست في أذنه: "احلم".
وفي العام الماضي، بدأ حلمه يتشكل كقوس قزح بعد المطر.. دخل بوابة نادٍ شهير في مصر، لم يحمل شيئًا سوى موهبته، ولا طلب شيئًا سوى فرصة.
كان يتدرب بجِد، لا يغيب، لا يشتكي. يركض أكثر من عمره، يراوغ التعب، ويبتسم للحلم كل مساء، لكن في هذا العام… تغير كل شيء.
فجأة، وبلا مقدمات، لم تعد الكرة كافية، ولا المهارة تشفع، ولا الجهد يُحتسب.. تحولت اللعبة إلى دفتر حسابات، والمستطيل الأخضر إلى سبورة أرقام.
من لا يملك لا يلعب
وهنا جاءت شركة، ووضعت نظامًا جديدًا لقطاع الناشئين وما بعد الاختبارات: "ادفع عشان تكمل معانا".
أربعون ألفًا ثمن أن تواصل الحلم.. خمس مواهب فقط سيُعفون من الدفع.. لكنهم، إن أرادوا الرحيل، فعليهم أن يشتروا حريتهم!
والباقون؟ يتم مساومتهم.. ويتم قيدهم باتحاد الكرة دون إذن أو فهم، فقط لضمان أنهم لن يحلموا في مكان آخر.
هكذا ببساطة.. تحولت الموهبة إلى عبء، والحلم إلى سلعة، والطفل إلى رقم في فاتورة.. وهنا لا أتحدث هنا عن قرار داخل نادٍ، بل عن عقلية تسربت إلى جسد الرياضة في بلادنا.. عقلية ترى الاستثمار في كل شيء، حتى في قلوب الصغار.
كيف سنصنع أبطالًا، إذا كان الحلم يُباع بالتقسيط؟ كيف نزرع فيهم الأمل، ونحن نحصد منهم البراءة؟ كيف نُخرج من بيننا "موهبة القرن"، ونحن لا نراها إلا إذا امتلكت دفتر شيكات؟
ما يحدث ليس فقط جريمة في حق رياضة تُحتضر، بل هو خيانة لطفل كان يرى في الكرة أكثر من لعبة.. كان يرى فيها بابًا للهروب من الفقر، ووسيلة للتعبير، وجسرًا إلى كرامة.
اليوم، تنهار أسر لا تملك المال، وتذبل مواهب لا تجد فرصة، ويتساقط الحلم قبل أن يكتمل الصوت في حنجرة الصغير.
نعم، نحن ندفع ثمنًا باهظًا.. لكن ليس من يدفع هو من يلعب.. بل من يملك المال هو من يركض.. ومن يملك الموهبة؟ ينتظر في الطابور.. وقد لا ينادى عليه أبدًا، وما لا يعرفونه أن كرة القدم مثل المسرح! فاضحة.
في النهاية، إلى من يهمهم الأمر أرجوكم الرياضة ليست سوقًا.. الرياضة رسالة! وليست سباقًا بين حسابات بنكية.. لست ضد الاستثمار ولا الأرباح لكن أطالب بالعدل.
إلى وزير الشباب والرياضة والاتحاد المصري لكرة القدم، فلنفِق قبل أن نقتل الحلم في مهده.. ولنتذكر أن البطولات لا تُشترى.. بل تُصنع، ومن يزرع في الملاعب "دكانًا"، سيحصد جمهورًا بلا روح، ولا منتخب، ولا مجد.. وكفى شعار “شخلل عشان تلعب”.