أخبار عاجلة
رسميًا.. موعد صرف مرتبات شهر أغسطس 2025 -

لغة الدم.. كيف يُصاغ القتل فى أدبيات الجماعات الجهادية؟

لغة الدم.. كيف يُصاغ القتل فى أدبيات الجماعات الجهادية؟
لغة الدم.. كيف يُصاغ القتل فى أدبيات الجماعات الجهادية؟
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق google news

فى سياق الجدل العالمى حول الخطاب المتطرف والإعلام الجهادي، يُعدّ مقال «وحرض المؤمنين» المنشور فى العدد 505 من صحيفة النبأ الصادرة مساء الخميس 24 يوليو 2025، أحد أبرز الأمثلة على توظيف اللغة بوصفها أداة تعبئة وتحريض ممنهج ضمن مشروع أيديولوجى عنيف.

هذا النص يمثل نموذجًا مكثفًا للخطاب الدعائى الذى يصدر عن تنظيم داعش، ويهدف إلى التأثير على المخاطَب نفسيًا وعقائديًا، ودفعه إلى الفعل الإرهابى سواء بالالتحاق بالتنظيم أو بتنفيذ عمليات فردية.

وسنقوم هنا بتحليل هذا المقال من خلال تفكيك البنية اللغوية والأسلوبية، وكشف استراتيجيات الإقناع والتأثير، وتحليل الأيديولوجيا الضمنية، والوظائف التداولية للنص.

 مقال «وحرض المؤمنين» خطاب تعبوى مُسيّس يوظف النصوص المقدسة فى سياق عنفى موجه  النص يحاول تفكيك بنية المجتمع والدولة لصالح مشروع هدام يُغلف بالعقيدة ويُسوّق بالمظلومية

أولًا: بنية الخطاب وتقنياته البلاغية

يُعدّ الخطاب الافتتاحى محل الدراسة نموذجًا متماسكًا من حيث البناء البلاغى والتسلسل التأثيري. فهو لا يعتمد على المصادفة فى التأثير، بل يوظّف تقنيات خطابية متدرجة تستهدف أولًا إثارة الانفعال، ثم دفع المتلقّى إلى تبرير القتال بل والتورّط فيه.

هذه البنية المُحكمة تُظهر وعيًا كبيرًا بأدوات التأثير، وتعكس مزيجًا من الأسلوب الدعوى التقليدى والاستراتيجية التحريضية الحديثة. فى هذا الجزء من التحليل، نستعرض أربعة محاور رئيسة تكشف عن ملامح هذه البنية: الوصف الدرامي، الأسئلة البلاغية، استدعاء النماذج التاريخية، وأسلوب الاقتباس الدينى المُكثّف.

١- الوصف الدرامى للواقع: خلق مناخ الأزمة المستعجلة

يفتتح الخطاب بصورة قاتمة للوضع الإسلامي، يستخدم فيها تعبيرات مثل المحن والنوازل لوصف ما يعيشه المسلمون فى مختلف بقاع الأرض.

هذه الصورة ليست مجرد خلفية عامة، بل تُرسم بعناية عبر عبارات مشحونة تعبيريًا، كـ«ذبح الأطفال، اغتصاب الحرائر، تدنيس المقدسات، وهى عبارات تهيئ المتلقى نفسيًا لحالة طوارئ وجودية.

الهدف من هذا التوصيف ليس فقط إظهار المعاناة، بل نقل الإحساس بأن العالم يتآمر على المسلمين، وأنهم مستهدفون فى دينهم وهويتهم.

هذا الإحساس يُغلق الباب أمام التحليل العقلانى أو البحث عن حلول سلمية، ويجعل من المقاومة المسلحة الحل الطبيعى والشرعى الوحيد.

إن هذه البنية الدرامية تخلق إحساسًا بالاختناق والانفعال، وتجعل أى خيار سوى المواجهة يبدو خيانة. وهى تقنية بلاغية يُراد بها دفع القارئ إلى حالة ذهنية تقبل العنف الدفاعى بوصفه قدرًا لا مفر منه.

٢- الأسئلة البلاغية: تحريك العاطفة وشلّ التفكير النقدي

يستخدم الخطاب تقنية الأسئلة المتكررة التى تبدأ بـ«أما...، وألا...، وهل...؟»، مثل: «أما آن لك أن تغضب؟»، «ألا يؤلمك صراخ اليتامى؟»، «هل ترضى بالهوان؟». هذه الأسئلة لا تبحث عن إجابة فعلية، بل تُستخدم لتحميل المتلقى شعورًا بالذنب والتقصير.

هذا النوع من الأسئلة هو أداة بلاغية قوية، تُعطل مؤقتًا التفكير التحليلي، وتستبدله برد فعل وجداني. يشعر القارئ بأنه يُلام ضمنيًا على صمته أو تردده، فيندفع لتبنى المواقف المتطرفة كنوع من التعويض أو التكفير.

يُلاحظ أيضًا أن هذه الأسئلة لا توجَّه إلى الآخر، بل إلى الذات المسلمة، فيتحول القارئ إلى ساحة معركة بين ضميره وبين النص، ويُدفع داخليًا لتبنّى خطاب العنف، ليس عن قناعة فكرية، بل عن ضغط عاطفى حاد.

٣- استدعاء التاريخ والنماذج البطولية: تحويل العنف إلى قدوة

يُكثر الخطاب من ذكر شخصيات تاريخية إسلامية عُرفت بالمواقف القتالية أو الاغتيالات السياسية، مثل أنس بن النضر، ومحمد بن مسلمة، وفيروز الديلمي. ويُقدَّم هؤلاء بوصفهم نماذج مُلهِمة يُحتذى بها فى مواجهة العدو.

لكن اللافت أن استدعاء هذه الشخصيات لا يأتى فى سياق سردى علمى أو فقهي، بل يُقطع من سياقه التاريخى ويوضع فى قلب الحاضر، ليُصبح القارئ وكأنه امتداد طبيعى لهؤلاء. يُغيب السياق، وتُستحضر البطولة، ليُشرعن القتل وكأنه عمل نبيل.

بهذا الاستخدام، يتحول الفعل العنيف من كونه خيارًا سياسيًا إلى واجب ديني، ومن كونه انتقامًا إلى اقتداء. ويُصبح الانخراط فى العنف ليس فقط مبررًا، بل ممدوحًا ومطلوبًا، مما يُلغى الخط الفاصل بين الجهاد والدعشنة.

٤- الاقتباسات الدينية المكثفة: تديين التحريض

يعتمد الخطاب بكثافة على آيات قرآنية وأحاديث نبوية، ولكن دون تفسير، ودون ربط بالظروف أو السياقات الفقهية. يُقتطع النص ويُقدَّم مباشرة فى سياق تعبوي: «فقاتلوا المشركين كافة»، «من قتل دون ماله فهو شهيد»، وغيرها.

الغاية من هذا الإغراق النصى ليست الاستدلال العلمي، بل خلق حالة من القداسة حول خطاب العنف. حين يربط الكاتب بين الدعوة للقتال ونصوص الوحي، يُصبح الرفض صعبًا، لأنه يبدو وكأنه رفض للإسلام نفسه.

الخطورة هنا تكمن فى أن الاقتباسات تُستخدم لإضفاء الشرعية الدينية المطلقة على أفكار بشرية، بل على توجهات سياسية وقتالية، مما يُؤسس لعنف مقدس لا يمكن مناقشته، ويُحول الساحة من نقاش إلى ساحة طاعة وإذعان.

ثانيًا: الاستراتيجيات الإقناعية والتجنيد العاطفى

تلعب النصوص الدعائية الجهادية، وخاصة خطابات داعش، دورًا يتجاوز نقل المعلومات أو إصدار التعليمات، إذ تقوم بوظيفة تعبئة وجدانية وإقناع نفسى يُراد منه التأثير العميق فى وجدان المتلقي، لا عقله فقط.

فالنص الجهادى لا يخاطب المسلم بوصفه فردًا عاديًا، بل بوصفه جنديًا متخاذلًا ينتظر التفعيل، أو شهيدًا مؤجلًا يستحق أن يُبعث. لفهم هذا الخطاب لا بد من تحليل أدواته الإقناعية واستراتيجياته العاطفية التى تمكّنه من تحويل نصوص مكتوبة إلى صرخات قادرة على دفع شاب ما إلى مغادرة حياته والذهاب إلى ساحة حرب.

١- ثنائية «نحن وهم»: تقسيم العالم إلى فسطاطين

يرتكز الخطاب الجهادى على تقسيم صارم وحاد للعالم، يصنع ثنائية مطلقة بين الموحدين والكفار، أو جنود الخلافة وأعداء الله. هذه الثنائية لا تترك مساحة للتدرج أو التعايش، بل تجعل كل من هو خارج الجماعة هدفًا مشروعًا.

إن هذا النوع من الخطاب لا يسمح بأى منطقة رمادية، بل يفرض على المتلقى الانحياز الفوري، ويدفعه إلى اتخاذ موقف وجودي: إما معنا أو ضدنا.

يُستَثمر هذا التقسيم لإلغاء التعقيد الأخلاقى والسياسى فى الواقع، وتحويل الصراع إلى معركة مصيرية بين الحق والباطل، الصفاء والشرك، الخلافة والجاهلية.

كل ذلك يُسهل عملية التحشيد، ويجعل كل عملية عنف أو تفجير تبدو كجزء من معركة مقدسة، لا كجريمة. فبمجرد أن يصبح الآخر مرتدًا، تسقط عنه الحماية ويُستباح دمه.

وهذه الثنائية لا تخدم فقط خطاب الكراهية بل تخدم أيضًا بناء الهوية الجهادية. إذ تمنح المنتمى شعورًا بالانتماء المطلق، وبأنه جزء من جماعة مختارة تقاتل العالم بأسره نيابةً عن الإسلام الحقيقي.

وبهذا، يتحول الانغلاق الفكرى إلى بطولة، وتصبح العزلة الاجتماعية دليلًا على التفوق العقدي.

٢- الاستثمار فى الشعور بالذنب: ضغط نفسى وتحفيز تطرفي

يُمارس الخطاب الجهادى نوعًا دقيقًا من الضغط النفسى على القارئ المسلم، من خلال تفعيل الشعور بالذنب. فالنصوص تُحمّل المتلقى مسؤولية ما يجرى فى العالم الإسلامي، من هزائم واحتلالات وإذلال، بل وتتهمه بالتخاذل، بل بالخيانة، لأنه لم ينصر دين الله أو يُهاجر أو يُجاهد. هذا التأنيب لا يهدف إلى الإصلاح بل إلى الدفع نحو الفعل المتطرف كوسيلة وحيدة للخلاص من الذنب.

يُصور الجهاد ليس فقط كفرض، بل كاختبار للمروءة والرجولة والولاء، ومن يتخلف عنه فهو ليس مجرد مذنب، بل جبان وخائن وعاجز. وغالبًا ما تُقرن كلمات، مثل القعود والتثاقل والوهن، بصور للمجاهدين المصابين أو الشهداء، ما يخلق مقارنة داخلية فى ذهن القارئ بين بطولة الآخرين وخيبة ذاته.

ومع تكرار هذه التقنية، يُصبح الشعور بالذنب مدخلًا نفسيًا للتجنيد. فالرغبة فى التكفير عن الذنب، أو التخلص من الشعور بالدونية، تقود البعض إلى الانخراط فى الجهاد، لا بدافع الإيمان، بل بدافع الحاجة النفسية إلى إعادة الاعتبار الذاتي، حتى لو كان ذلك عبر الموت نفسه.

٣- الوعود الأخروية: اختزال الحياة فى الشهادة والجنة

تعتمد النصوص الدعائية الجهادية بشكل كثيف على مفردات الآخرة، وتستخدم أحاديث وعبارات من التراث الإسلامى لخلق صورة حالمة عن الشهادة والنعيم الأبدي.

فعلى سبيل المثال، تُذكر أقوال مثل: «إنى أجد ريح الجنة»، أو «فى الجنة ما لا عين رأت»، لتُصبح المعركة ليست فقط واجبًا دينيًا، بل بوابة عبور إلى الفردوس.

هذه الوعود تُستخدم كـ«طُعم نفسي»، خاصة للشباب الذين يعانون من الإحباط والحرمان والعزلة. إذ تقدم لهم الجنة على أنها التعويض الأقصى عن كل ما فقدوه فى حياتهم.

وبهذا، يصبح الاستشهاد هو الطريق الأقصر للحصول على الحب، التقدير، والمكافأة. وهو ما يجعل الموت ليس رعبًا بل حلمًا جميلًا.

والأخطر أن هذه الوعود لا تأتى بشكل وعظى فحسب، بل تُقدَّم كصفقة رابحة: الموت اليوم مقابل الخلود غدًا، والتضحية بالنفس مقابل الجنات والحور العين.

وبهذه الصفقة العاطفية المختزلة، يُختزل الدين كله فى لحظة انفجار، ويُختزل الإنسان فى دور القنبلة البشرية.

ثالثًا: الإيديولوجيا الكامنة وراء النص

لا يقتصر الخطاب المتطرف على التحريض المباشر أو الدعوة المجردة للعنف، بل يتغلغل فى البنى العميقة للفكر والاعتقاد، حيث يسعى إلى إعادة تشكيل المفاهيم الدينية الجوهرية بما يتماشى مع أيديولوجية التنظيم.

إن ما يبدو فى الظاهر استشهادًا بآيات قرآنية أو أحاديث نبوية، يخفى وراءه عملية تفكيك وإعادة تركيب للمعانى الإسلامية، تُخضع النصوص لخدمة مشروع سياسى راديكالي. ومن خلال هذا التحليل، نرصد أربع دلالات أيديولوجية محورية يكشفها النص:

١- الولاء والبراء: من عقيدة إيمانية إلى أداة للإقصاء

فى النسق السلفى الجهادي، يتحول مفهوم «الولاء والبراء» من عقيدة دينية تقوم على محبة المؤمنين وكراهية الكفر إلى معيار صارم للفصل بين المؤمن الحق والمرتد الخائن.

فالنص يُعيد تعريف الولاء على أنه الانضمام الفعلى للتنظيم أو دعم عملياته، بينما يُفسر البراء بأنه إعلان القطيعة مع المجتمعات الطاغوتية والدول القائمة.

هذا التعريف الجديد يؤدى إلى إقصاء واسع لكل من لا ينخرط فى العمل المسلح، بما فى ذلك العلماء، والدعاة التقليديين، والمسلمين العاديين.

يصبح البراء من الكفار لا مجرد موقف قلبى كما فى المفهوم الفقهى الكلاسيكي، بل سلوكًا سياسيًا واجتماعيًا عنيفًا قد يشمل التحريض أو القتل.

وبذلك، يتحول المفهوم إلى أداة تكفير وإقصاء، حيث لا يُترك أى مجال للاجتهاد أو التعدد داخل الجماعة الإسلامية. فكل من لا يتطابق مع أيديولوجية التنظيم يُصنَّف فورًا فى خانة العدو، مما يُغلق الباب أمام الحوار الداخلى ويحول المجتمع المسلم إلى جبهتين متقاتلتين.

٢- الجهاد: من فريضة مشروطة إلى قتل مطلق

الجهاد، كما يُعرض فى الخطاب، لا يُقدَّم كأحد الفروض المشروطة بشروط وضوابط فقهية، بل كأمر مطلق لا يعرف القيود. يتم تجاهل النصوص التى تضع ضوابط دقيقة للجهاد، مثل إذن الوالدين أو شروط القدرة، ويتم الاكتفاء بآيات القتال المطلقة مع عزلها عن سياقها.

فى هذا السياق، تتحول الدعوة إلى الجهاد إلى تفويض مفتوح بالقتل، ليس فقط ضد من يقاتل المسلمين، بل ضد كل من يُصنَّف ضمن الطواغيت أو الموالين لهم.

بل وتظهر دعوات صريحة، مثل «اقتلهم فى بيوتهم»، و«اقطف رؤوسهم»، فى تجاوز كامل لفقه دار الحرب ودار الإسلام، واستبعاد لأى اعتبار للمدنيين أو العُزّل.

بهذه الصياغة، يتم توظيف الجهاد ليصبح وسيلة لعنف غير مقيَّد، حيث تُمحى الحدود بين الفعل الشرعى والجريمة الإرهابية. ويتحوّل الخطاب إلى تجييش دائم للعداء، حيث لا مكان للسلم أو التعايش، بل يُختصر الدين فى ساحة حرب لا تهدأ.

٣- الهجرة: من اضطرار إلى واجب عسكري

فى التراث الإسلامي، الهجرة ارتبطت بظرف الاستضعاف، مثل ما حدث فى هجرة النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. لكنها فى الخطاب المتطرف تتحول إلى فريضة عسكرية لا تقل شأنًا عن الجهاد، بل تُعرض كدليل على الإيمان الصادق.

ويتم ربط النجاة الأخروية بالهجرة إلى أرض الخلافة، وجعلها معيارًا للفصل بين الصادقين والمنافقين.

يُصوَّر من يبقى فى ديار الكفر أو فى الدول الإسلامية «المرتدة» على أنه مفرط فى دينه، عاجز عن التزام أمر الله، بل قد يُصنَّف ضمن «القاعدين» الذين توعدهم الله بالعذاب. وهكذا، يتم تجريد المسلم من شرعيته الإيمانية لمجرد أنه لم يغادر وطنه للالتحاق بالتنظيم.

هذه الإيديولوجيا تُكرّس العزلة والانفصال عن العالم، وتُسهم فى دفع الأفراد إلى ترك مجتمعاتهم وعائلاتهم والهروب نحو مشروع عنيف يتغلف بالقداسة. ويُغدو العالم كله دار حرب لا مأمن فيه إلا داخل الحدود التى رسمها التنظيم.

٤- تأويل النصوص: تعسف «hermeneutic» يُنتج فتنة دموية

ربما أخطر ما فى الخطاب هو الطريقة التى تُستخدم بها النصوص الدينية. فالنص لا يقترب من النصوص القرآنية والسُّنية بروح التفسير أو الفقه، بل بروح التوظيف والانتقاء. يُؤخذ من القرآن ما يخدم فكرة القتال والتكفير، وتُهمل عشرات الآيات التى تدعو للرحمة والتدرج والسلم.

ولا يتوقف الأمر عند الانتقاء، بل يشمل الإسقاط التعسفى للسياقات. تُستَحضر آيات نزلت فى صراع محدد، مثل قتال قريش أو يهود بنى قريظة، وتُطبَّق كما هى على الواقع المعاصر، دون اعتبار للتغير التاريخى أو للمقاصد العامة للشريعة. بل إن بعض الأحاديث تُقتطع من سياقها وتُحمَّل بتأويلات لا يعرفها التراث الفقهي.

هذه المنهجية التأويلية ليست بريئة، بل تهدف إلى تبرير العنف بأثر رجعي، وتحويل النصوص المقدسة إلى ذخيرة أيديولوجية لشرعنة القتل والانتحار. وهكذا يُغدو القرآن نفسه — فى الخطاب المتطرف — مشروع حرب لا مشروع هداية.

رابعًا: الوظائف التداولية للنص

فى إطار التحليل التداولي، يمكن فهم النص الجهادى بوصفه خطابًا وظيفيًا بامتياز، لا يهدف إلى نقل المعلومات أو تقديم رؤى لاهوتية بقدر ما يسعى إلى إحداث تأثير مباشر فى المتلقي.

فالتنظيمات المتطرفة لا تنتج نصوصًا معرفية، بل نصوصًا محفّزة موجهة نحو سلوك معين، وتستخدم الأدوات البلاغية والدينية لتوجيه الأفعال. هذا النوع من الخطاب، إذًا، لا يمكن فهمه بمعزل عن وظيفته الأدائية، أى ما يريد أن يفعله بالقارئ. وفى هذا السياق، تتجلى أربع وظائف تداولية أساسية:

١- التحريض على العنف

يُعد التحريض على القتل والمشاركة فى العنف المسلح الوظيفة المركزية لهذا الخطاب، وهو لا يأتى فى صورة مباشرة فحسب، بل يُغلّف بمبررات دينية وعقائدية تعطيه مشروعية «شرعية». فالنص يوظّف آيات قرآنية وأحاديث نبوية خارج سياقها، مثل: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم»، ويستدعيها لتبرير القتل العشوائى أو الفردي، سواء فى ساحات الحرب أو داخل بيوت المدنيين.

المقال يعمد إلى تطبيع فعل القتل، فيتحول من جريمة محرّمة إلى عبادة يتقرب بها المجاهد إلى الله. ويتم التلويح بالمكافأة الأخروية كحافز معنوي، حيث تُربط الجنة وسعة القبر ورضا الله بفعل القتل، لا بالصلاة أو الزكاة أو أعمال الخير. هذا التلاعب بالعقيدة يُنتج مفارقة خطيرة: يصبح القاتل مقتنعًا بأنه وليّ لله.

ومن خلال هذا الأسلوب، يُعاد تعريف البطولة والاستشهاد فى ذهن المتلقي. فبدلًا من التضحية فى سبيل الدفاع عن النفس أو الوطن، يصبح الهجوم المباغت على مدنيين أو مرتدين هو قمّة التعبير عن الإيمان. يتخلق هنا نموذج المجاهد الجديد، المهووس بالقتل بوصفه سُلَّمًا إلى الفردوس.

٢- التجنيد غير المباشر

لا يستخدم النص أسلوب الأوامر الصريحة «التحق بالتنظيم الآن!»، بل يُمارس نوعًا من الإقناع غير المباشر، عبر خلق مناخ نفسى وأخلاقى يشعر فيه القارئ أن الانضمام إلى التنظيم هو الخيار الوحيد لنجاة دينه ونفسه. فكل من يتردد أو يتقاعس يُتهم بالجبن والنفاق، وتُسلَّط عليه أوصاف تُشعره بالعار.

يُقدَّم الانضمام للتنظيم أو تنفيذ عملية فردية باعتباره واجبًا دينيًا لا يسقط بالتقاعس، ويُصور أن زمن التنظير والكلام قد انتهى، وأن الحقيقة الوحيدة اليوم هى المواجهة بالسلاح. بهذا الشكل، يُستبدل الحوار بالفعل، وتُختصر الحياة بين خيارين: «إما معنا، أو إلى الجحيم».

اللافت أن النص يمنح القارئ هامشًا للتحرك بحسب ظرفه، فهو لا يُلزمه بالسفر، بل يفتح له المجال لتنفيذ عمليات داخل وطنه أو حتى من داخل منزله. هذا ما يجعل النص خطيرًا جدًا، لأنه لا يُنتج فقط مقاتلين فى الجبهات، بل أيضًا ذئابًا منفردة قد تنفجر فى أى لحظة دون سابق إنذار.

٣- شيطنة الآخر

يُمارس الخطاب عملية تجريد قاسية للآخر – سواء كان مسلمًا مخالفًا أو غير مسلم – فيُحوّله إلى رمز للشر المطلق. تُستخدم ألفاظ، مثل المرتدين، أولياء الشيطان، عبّاد الطاغوت، وهى مصطلحات تُفرّغ الآخر من كل قيمة إنسانية، وتُهيّئ القارئ لتقبّل قتله أو التنكيل به دون أى شعور بالذنب.

هذا النمط من الشيطنة يُسهم فى خلق ثنائية حادة بين «نحن» و«هم»، حيث لا مكان للرمادى أو للوسطية. كل من لا يُجاهر بالانضمام للتنظيم يُعد متواطئًا، وكل ساكت يُحسب فى صف الكفر، وبالتالى يحق القصاص منه. هكذا تُمحى الحواجز النفسية والأخلاقية التى عادة ما تمنع الإنسان من ارتكاب العنف.

ويُلاحظ أن الخطاب لا يُفرّق بين المدنى والعسكري، ولا بين المذنب والبريء. فبمجرد أن يُوسَم الآخر بالردة أو الكفر، يصبح دمه مباحًا، وبيته مستهدفًا، وزوجته غنيمة محتملة. هذه الشيطنة تُعد أخطر مراحل إنتاج العنف، لأنها تحوّل الفعل الإجرامى إلى واجب شرعي.

٤- تعزيز الهوية الجهادية

ينخرط الخطاب فى عملية إعادة تشكيل هوية القارئ، بحيث لا يعود إنسانًا فردًا، بل جنديًا فى معسكر الإيمان. يُطالب القارئ بالذوبان الكامل فى الجماعة، والتخلى عن مشاعره الخاصة أو هويته الشخصية لصالح هوية المجاهد، التى تعنى الطاعة، والقتال، واليقين بالنصر.

الهوية الجهادية التى يُعيد الخطاب إنتاجها تقوم على الشعور بالاصطفاء: نحن «الفرقة الناجية»، «جند الله»، «أصحاب البيعة»، مقابل باقى الناس الذين يعيشون فى الضلال. هذا الشعور بالتفوّق العقائدى يغذى مشاعر الاستعلاء، ويمنح المقاتل مبررًا لاحتقار الآخر واستباحته.

ومن خلال هذه الهوية الجديدة، يُفكك الخطاب روابط الانتماء التقليدية: الأسرة، الوطن، المجتمع، ويُستبدل بها الانتماء للتنظيم. لم تعد الأمومة أو المواطنة أو الجيرة قيَمًا عليا، بل أصبحت مجرد عوائق فى طريق المجاهد. وهكذا تتحول الهوية من أنا إلى نحن، ومن إنسان إلى مقاتل.

خاتمة نقدية

مقال «وحرض المؤمنين» لا يمكن قراءته بوصفه مجرد نص ديني، بل هو خطاب تعبوى مسيّس يوظف النصوص المقدسة فى سياق عنفى موجه، ويتعمد بناء سردية الصراع الشامل التى تبرر الإرهاب باسم الدفاع عن الدين.

إنه نص يحاول تفكيك بنية المجتمع والدولة لصالح مشروع هدام يُغلف بالعقيدة ويُسوّق بالمظلومية. ومن هنا، تأتى خطورة هذا النوع من الخطابات: لأنها لا تكتفى بالكلمات، بل تمهد الطريق لسفك الدماء.

 

اشترك فى النشرة البريدية لتحصل على اهم الاخبار بمجرد نشرها

تابعنا على مواقع التواصل الاجتماعى

السابق زيادات مالية وتهديد بالاستقالة بسبب عودة الحكام الكبار ملخص اجتماع أبو ريدة وأوسكار رويز
التالى الداخلية تكشف ملابسات مشاجرة بالقليوبية وتضبط المتهمين والأسلحة المستخدمة