في يوم حزين يلفه الصمت والأسى، نودع أحد أعظم الأصوات التي عرفتها الساحة الفنية العربية، زياد الرحباني، الذي رحل عن عالمنا تاركًا وراءه إرثًا فنيًا وفكريًا لا يُمحى.
لم يكن زياد مجرد موسيقي أو ملحن أو كاتب مسرحي، بل كان رمزًا للتمرد الفني والثقافي، صوتًا للمهمشين والمعذبين، ومرآة تعكس وجوهنا الحقيقية بكل تناقضاتها وأوجاعها.
في هذا البروفايل، نستعيد مسيرة حياة هذا العبقري المتمرد، ونحتفي بإسهاماته التي ستظل خالدة في ذاكرة الفن العربي.
النشأة في بيت الفن والتمرد
وُلد زياد الرحباني في 1 يناير 1956 في بيروت، في كنف عائلة فنية مرموقة. والده، الموسيقار الكبير عاصي الرحباني، ووالدته، المطربة الأيقونية فيروز، كانا من رواد الموسيقى العربية الأصيلة، وأسسا ما عُرف بـ"المدرسة الرحبانية".
لكن زياد، رغم نشأته في هذه البيئة، رفض أن يكون مجرد امتداد لإرث والديه.
منذ سن مبكرة، أظهر تمردًا واضحًا، واختار أن يشق طريقًا فنيًا مستقلًا يعكس رؤيته الخاصة للفن والحياة. كان زياد يؤمن بأن الفن ليس ترفًا، بل قضية، وهذا ما جعله يبتعد عن الأساليب التقليدية ويخلق أسلوبًا فريدًا يمزج بين الشرق والغرب، وبين العمق الفكري والسخرية اللاذعة.
نشأ زياد في بيروت التي كانت تعج بالحياة والفوضى، تلك المدينة التي أحبها وعاشها بكل تفاصيلها، من شوارعها الضيقة إلى أحلام أهلها المكسورة.
لم يكن طفلًا عاديًا في كنف عائلة عادية، بل كان ابنًا لفنٍ عظيم، ورث الموهبة كما يرث المرء دمه، لكنه اختار أن يصبغها بلونه الخاص، لون التمرد والحرية.
المسيرة الموسيقية.. نبض الشوارع وصوت المهمشين
بدأ زياد مسيرته الموسيقية في سن السابعة عشرة، حيث قدم أول لحن لوالدته فيروز، وكانت أغنية "سألوني الناس"، التي سرعان ما أصبحت من كلاسيكيات الأغنية العربية.
لكن زياد لم يكتفِ بتلحين الأغاني لوالدته، بل أبدع في خلق أعمال موسيقية تعبر عن هموم الناس وتفاصيل حياتهم اليومية.
من أبرز أعماله "كيفك إنت" و"البوسطة"، والتي تركت بصمة واضحة في المشهد الموسيقي العربي.
كانت موسيقى زياد مزيجًا فريدًا بين الشرقي والغربي، حيث كان الجاز يتغازل مع العود، والبيانو يتناغم مع الكلمات العربية.
لم تكن ألحانه مجرد نغمات، بل كانت تعكس نبض الشوارع، وهمسات الناس، وأوجاعهم المكتومة. كان زياد يؤمن بأن الموسيقى هي صوت المهمشين، وملاذ للروح في زمن طغت فيه السطحية على الفن.
عندما كان يعزف، كان يروي قصصًا، ينقلنا إلى أزقة بيروت، إلى المقاهي الشعبية، إلى أحلام العمال والفقراء التي تتحطم على صخرة الواقع.
لم يكن زياد مجرد ملحن، بل كان شاعرًا صامتًا يعبر بالنغمات عما لا تستطيع الكلمات قوله. ألحانه كانت كالريح، تحمل رائحة التراب والمطر، وتداعب أرواحنا بلطف وحزن عميق.
كان يعزف كما يتنفس، بصدق وحرية، بعيدًا عن قيود السوق والتجارة.
المسرح السياسي والاجتماعي.. مواجهة السلطة والمجتمع
لم يكتفِ زياد بالموسيقى، بل امتد إبداعه إلى المسرح، حيث قدم أعمالًا لم تكن مجرد عروض تقليدية، بل مواجهات جريئة مع السلطة والمجتمع.
من أبرز مسرحياته:
"فيلم أمريكي طويل": عمل ساخر ينتقد الواقع السياسي بطريقة لاذعة.
"نزل السرور": مسرحية تجمع بين الفكاهة والنقد العميق للتناقضات الاجتماعية.
"بالنسبة لبكرا شو؟": تساؤل وجودي عن المستقبل، ممزوج بالسخرية والأمل المكسور.
استخدم زياد المسرح كمنصة لكسر التابوهات وصفع السلطة، معتمدًا على الضحك كسلاح لكشف القهر والظلم.
كانت مسرحياته مرآة تعكس وجوهنا الحقيقية، بكل قبحها وجمالها، وتجبرنا على مواجهة أنفسنا ومجتمعاتنا.
لم يكن المسرح بالنسبة له مجرد تسلية، بل كان ساحة معركة، حيث يقاتل بالكلمات والسخرية، ويوجه سهامه إلى كل ما هو فاسد وظالم.
في مسرحياته، كان زياد يضحك بنا وعلينا، يجعلنا نرى أنفسنا كما نحن، عراة من الأقنعة التي نرتديها.
كان يتحدث عن الحرب بمرارة، وعن السلام بيأس، وعن الحياة بحب مشوب بالألم.
كان مسرحه صرخة في وجه الصمت، ونورًا في ظلام الواقع العربي المرير.
المواقف السياسية
كان زياد الرحباني معروفًا بمواقفه السياسية الجريئة وانتمائه لليسار. لم يكن يخشى التعبير عن آرائه، سواء في أعماله الفنية أو في البرامج الإذاعية والصحافة.
انتقد القمع، والفساد، والطائفية، وكأنه يحدق في قلب كل عربي. كان شيوعيًا بمعطف ممزق وصوت عالٍ، لكنه لم يكن يومًا دمية في يد الأيديولوجيا؛ بل انتقد حتى الحزب الشيوعي نفسه عندما رأى ذلك ضروريًا.
كان زياد صوتًا للثورة في زمن الخنوع، وقلمًا حادًا في وجه الظلم.
لم يكن يسعى لإرضاء أحد، بل كان يقول ما يؤمن به، حتى لو كلفه ذلك العزلة أو العداء.
رغم الجدل الذي أثاره، ظل زياد محط تقدير واسع بسبب صدقه وإبداعه. لم يكن محبوبًا لأن الناس تتفق معه، بل لأنهم يعرفون أنه صادق، حقيقي، لا يراوغ ولا يجامل، كان زياد صوتًا للحقيقة في زمن كثر فيه النفاق.
السنوات الأخيرة والرحيل
في السنوات الأخيرة من حياته، عانى زياد من مشاكل صحية أثرت على نشاطه الفني، لكنه ظل متمسكًا بإبداعه ومواقفه.
توفي في 26 يوليو 2025، بعد صراع مع المرض، عن عمر 69 عامًا.
رحيله ترك فراغًا كبيرًا في الساحة الفنية والثقافية، حيث نعاه محبوه ومعجبوه كأحد أبرز الشخصيات التي شكلت وجدان الأمة العربية.
في يوم وداعه، لم يكن الحزن مقتصرًا على لبنان فحسب، بل امتد إلى كل ركن في العالم العربي، حيث كان زياد صوتًا يشبه الوطن حين يغني، رحل تاركًا وراءه موسيقى تفوح منها رائحة الرصيف، وتفاصيل الناس، وهمسات الشوارع.
كان رحيله كما لو أن بيروت نفسها فقدت نبضها، وكأن العالم العربي أغلق نافذة كان يتنفس منها هواء الحرية والإبداع.
الإرث: لحن لا ينتهي
زياد الرحباني لم يمت، بل ظل حيًا في أعماله التي ستظل تعزف أنغام بيروت والوطن العربي لأجيال قادمة، كان فنانًا متعدد المواهب، كتب، لحّن، مثّل، عزف، حاور، ثار، وأحب، لكنه، فوق كل ذلك، كان رمزًا للتمرد الفني والثقافي، وصوتًا للحقيقة في زمن كثر فيه الصمت.