
يعيش الدولار الأميركي لحظة حرجة في تاريخه الحديث، بعدما ظل لعقود الأداة الأبرز للهيمنة الاقتصادية الأميركية، ومركز الثقل في النظام المالي العالمي. لكن تراجع مؤشر الدولار بنحو 11% في النصف الأول من عام 2025، وهو أكبر انخفاض له منذ أكثر من خمسين عامًا، فتح الباب واسعًا أمام تساؤلات جوهرية حول مستقبل العملة الأميركية ومكانتها كـ"سلاح ناعم" في السياسات الدولية.

اختلالات متراكمة تضغط على العملة
جاء التراجع الحاد في قيمة الدولار نتيجة تراكم مجموعة من العوامل البنيوية والمعقدة، في مقدمتها ارتفاع الدين العام الأميركي إلى أكثر من 37 تريليون دولار، وتصاعد النزاعات التجارية، وتباين التوجهات بين الإدارة السياسية والاحتياطي الفيدرالي. هذا الوضع أوجد حالة من القلق المتزايد في الأسواق العالمية، وأعاد الجدل حول قدرة الاقتصاد الأميركي على الحفاظ على قوة عملته في مواجهة الأزمات المتلاحقة.
تضارب السياسات بين الإدارة والفيدرالي
برز في الفترة الأخيرة توجه واضح نحو دفع الدولار إلى التراجع لدعم الصادرات وتقليل عجز الميزان التجاري، بينما يسعى الاحتياطي الفيدرالي إلى تثبيت قيمة العملة والتحكم في معدلات التضخم، ما أدّى إلى تصاعد الخلاف بين المسارين. هذه الازدواجية في السياسات زادت من ضبابية المشهد النقدي، وعمّقت القلق لدى المستثمرين والشركاء التجاريين الدوليين.
الدين العام.. تهديد متصاعد
مع تجاوز الدين العام الأميركي 37 تريليون دولار، يواجه الاقتصاد الأميركي تحديًا هيكليًا حادًا. نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي تقترب من 100%، وهو مؤشر عادة ما يرتبط بالاقتصادات الناشئة، لا بأكبر اقتصاد في العالم. الإنفاق التحفيزي وخفض الضرائب ساهم في تعميق هذا العجز، وأصبح يشكل قنبلة موقوتة تهدد الاستقرار المالي في الأمد المتوسط.
تحول في اتجاهات الاحتياطيات العالمية
التغير الأبرز يتمثل في الانخفاض المستمر لاحتياطيات الدولار لدى البنوك المركزية حول العالم، والذي بلغ أكثر من 20% خلال العقدين الأخيرين. تتجه العديد من الاقتصادات الناشئة الكبرى إلى تنويع أصولها، وإدخال الذهب، واليوان الصيني، واليورو ضمن محافظها الاحتياطية. هذا التحول يعكس رغبة دولية متزايدة في تقليل الاعتماد على الدولار، كرد فعل على استخدامه المتكرر كأداة للعقوبات السياسية والاقتصادية.
فعالية الدولار كسلاح سياسي تتراجع
تكرار استخدام الدولار كوسيلة للضغط والعقوبات أفقده الكثير من موثوقيته كعملة احتياطية محايدة. الدول المستهدفة بتلك السياسات بدأت بالبحث عن بدائل مالية، مما ساهم في زيادة الطلب على الذهب، وتعزيز مكانة العملات الأخرى في التسويات الدولية. هذه التطورات تقود إلى إعادة تشكيل تدريجي في بنية النظام المالي العالمي.
تراجع نسبي لا يعني انهيارًا
رغم المؤشرات السلبية، ما زال الدولار يحتفظ بدوره المحوري عالميًا، مستندًا إلى قوة الاقتصاد الأميركي ومتانة أسواقه المالية. إلا أن هذا الدور أصبح مهددًا بالتآكل التدريجي، في ظل التغيرات الجيوسياسية والمالية العالمية، وتزايد الخيارات المتاحة أمام الدول لتسوية تعاملاتها بعيدًا عن العملة الأميركية.
ملامح نظام مالي عالمي جديد
التحوّل الحالي لا ينبئ بانهيار وشيك للدولار، لكنه يعكس بداية لعصر تتقاسم فيه عدة عملات النفوذ المالي الدولي. مع تصاعد الذهب، وتنامي الثقة التدريجية في اليوان، واستعادة اليورو لبعض دوره السابق، لم يعد الدولار المنفرد في ساحة السيطرة النقدية العالمية. هذا الواقع يفرض على الدول – خاصة في المنطقة العربية – إعادة تقييم ارتباطاتها النقدية واستراتيجياتها في إدارة الاحتياطات.
الضغوط المالية، النزاعات السياسية، وارتفاع الديون، كلها عوامل تكشف أن قوة الدولار لم تعد مطلقة كما كانت. وبين سعي واشنطن إلى استخدامه لتعزيز موقفها التفاوضي، ورغبة العالم في التحرر من سطوته، تتحدد ملامح المرحلة المقبلة. الدولار لا يسقط، لكنه يفقد بريقه ببطء، وظهور نظام مالي متعدد الأقطاب بات مسألة وقت لا أكثر.
إخلاء مسؤولية إن موقع عاجل نيوز يعمل بطريقة آلية دون تدخل بشري،ولذلك فإن جميع المقالات والاخبار والتعليقات المنشوره في الموقع مسؤولية أصحابها وإداره الموقع لا تتحمل أي مسؤولية أدبية او قانونية عن محتوى الموقع.