في الوقت الذي تشهد فيه صناعة الاتصالات العالمية تحولات جذرية يقودها الذكاء الاصطناعي، لا يزال المشهد المصري يتأرجح بين محاولات تجريبية وتصريحات فضفاضة، ورغم أن شركات الاتصالات الأربع في مصر تُسوق لنفسها على أنها "رقمية" و"مدعومة بالذكاء الاصطناعي"، فإن التطبيق الفعلي على الأرض لا يزال محدودًا، ولا يعكس بعدُ تحولًا جذريًا في البنية التشغيلية أو تجربة المستخدم.
لا يمكن إنكار أن هناك اهتمامًا متزايدًا بتبني أدوات الذكاء الاصطناعي، خصوصًا في مجالات الدعم الفني الذكي، وتحليل البيانات الضخمة، وإدارة الشبكات بشكل استباقي ومع ذلك، تبقى هذه المبادرات غالبًا في إطار التجريب أو الاستخدام الجزئي، ولا تعبّر حتى الآن عن نقلة منهجية تعيد رسم خريطة الخدمات أو تعالج تحديات البنية التحتية بفعالية، فالسوق المصرية تملك مقومات قوية تؤهله ليكون بيئة خصبة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الاتصالات إذ يبلغ عدد مشتركي خدمات الهاتف المحمول نحو 116.9 مليون مستخدم حتى مارس 2025، بمعدل انتشار يتجاوز 108%، في حين ارتفع عدد مستخدمي الإنترنت إلى أكثر من 83 مليون مستخدم، وفقًا لبيانات الجهاز القومي لتنظيم الاتصالات ووزارة الاتصالات هذا الانتشار يرافقه زخم حكومي واضح في دعم التحول الرقمي، وتوسيع منظومة "مصر الرقمية" التي تشمل أكثر من 180 خدمة إلكترونية حتى منتصف 2025.
ورغم هذه المؤشرات الإيجابية، لا يزال القطاع يفتقر إلى تنسيق مؤسسي متكامل بين الجهات التنظيمية، ومقدمي الخدمة، والجهات البحثية كما أن البيئة التشريعية الحالية لا تزال بحاجة إلى تحديث لتواكب سرعة تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، خاصة فيما يتعلق بحماية الخصوصية، وتأمين البيانات، وتنظيم استخدام الخوارزميات في الخدمات ذات التأثير المجتمعي.
والخطوة التالية يجب أن تتجاوز مرحلة التجريب، نحو استثمار حقيقي في الحلول المحلية وتأهيل الكوادر التقنية، ودعم الابتكار من خلال حاضنات تكنولوجية وتمويل موجه للشركات الناشئة المتخصصة في الذكاء الاصطناعي، وتفعيل الشراكات بين شركات الاتصالات والجامعات والمراكز البحثية سيكون محوريًا، ليس فقط لتعزيز البحث والتطوير، بل أيضًا لضمان توطين المعرفة التقنية، وتكوين قاعدة من الكفاءات المصرية القادرة على قيادة هذا التحول، كما أن خلق بيئة داعمة للمبتكرين المصريين في مجال الذكاء الاصطناعي من شأنه أن يمنح القطاع ميزة تنافسية محلية وإقليمية.
ما نحتاجه ليس تكرار مصطلح "AI" في المؤتمرات، بل تبني رؤية عملية تبدأ بتأهيل الكوادر، وتحفيز البحث العلمي، وتمويل الشركات الناشئة العاملة في هذا المجال فالذكاء الاصطناعي ليس رفاهية، بل ضرورة أمنية واقتصادية، فإما أن ندخله بذكاء أو نُدار به دون وعي.